لقد رأى البعض فى اتهام أبى الفتوح- وغيره ممن كان فى تنظيم جماعة الإخوان وتركه- بنقض العهد مع الله نوعًا من سوء الخلق والتجريح والتنافس الانتخابى غير اللائق، ومن هنا فإنى أتعامل - فوق هذا- مع هذا الطرح وغيره من عبارات (الدعوة تنفى خبثها، المرشح الإسلامى الوحيد، الجماعة الربانية، الله يتخير للجماعة قياداتها) كمتلازمة وهن معرفى وأصولى وتربوى تسود فى قطاعات الحركة الإسلامية منذ دهر.. وتنتج إجمالا عن رقة الوعى الأصولى والتأسيس التربوى، الذى يميّز بين الفكرة المطلقة وتجلياتها فى الأدبيات الشرعية والوعى والذوق والسلوك وبين المقاربة البشرية لها فى الفهم والتنزيل.. أى الخلط بين الدين والدعوة والتنظيم، وجماعة المسلمين وجماعة من المسلمين. وهذا يمثل خطرًا على المشروع الإسلامى وسلامته ويحمل فى جعبته بذور استبداد دينى ودولة شمولية ترى مُعارضيها- وتجربتها- زائغًا غن الهدى ورائما غير سبيل الوطنيين! فالتكييف الشرعى لجماعة الإخوان، كما هو حاضر، فى أدبياتها يدور على وضعين: الأول أنها نواة عينية لجماعة المسلمين، ولكن لا تأخذ أحكام جماعة المسلمين قبل أن تمكّن، وقد ألمح لهذا الهضيبى فى دعاة القضاة وتبنى هذا الرأى بشدة الشيخ سعيد حوى، وأشار له الشيخ الراشد حين هذّب الغياثى للجوينى (وهو رأى بعض فقهاء الشافعية والأحناف إذا انعدمت جماعة المسلمين). والوضع الثانى، وهو المنتشر فى أغلب قطاعات الإخوان فى كل الأقطار- وليس الأول- أنها جماعة من المسلمين تقوم على تحقيق فرائض معطلة فى الدعوة والتربية والإصلاح السياسى والتحرر والوحدة- انتهى. وهذا الرأى هو السائد فى أدبيات الإخوان وصفوفها، وهو بهذا يعتبر إمام هذه الجماعة (إمامًا خاصًا) وليس بمقام الإمام العام، وبيعتها (بيعة خاصة) وليست بمقام البيعة العامة. ولقد انحاز الشيخ الراشد لهذا الرأى فى (أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقى فى نظريات فقه الدعوة) ورأى أن الجماعة باقية حتى فى ظل وجود الإمام المسلم، وهاجم مصطفى الطحان رأى الشيخ سعيد حوى فى كتابه، الذى قدّمه مصطفى مشهور (الفكر السياسى الإسلامي) وهذا لأنه قد يحمل للخلط بين الإخوان وجماعة المسلمين فى التصورات الكلية والأحكام التنظيمية والسلوكية. فمثلا لو تصور الفرد الإخوانى- أو المنتمى لحركة إسلامية فيها بيعة- أن بيعته (عامة) حتى لو اعتقد أنها غير ملزمة لغيره فماذا يكون موقفه إذا قام عقد مواطنة ودولة قطرية صحيح- كحالتى مصر وتونس الآن والبقية على الطريق- وأى دائرتى الولاية تكون أعلى وأولى فى حقه إذا تنازع الاختصاص؟! كذلك.. البيعة (العامة) تلك تسحب أحكام دائرة الإمامة العامة وحدود تدخلها.. فهل يقضى إمام الجماعة فى الأموال والأعراض والدماء؟ وهل يعلن الحرب والسلم؟ وما علاقة كل هذا بعقد المواطنة وقوانين الدولة؟ (وهذا الخلط حصل بالفعل فى بعض الجماعات الإسلامية فى فترة الثمانينيات والتسعينيات). وهل إذا ظهرت جماعة أخرى- وقد ظهرت جماعات- تطرح نفس عقد البيعة العامة (الاجتهادى هذا) يوجب هذا المقاتلة؟ وهل الشرط الذى وضعه الهضيبى لهذا الرأى (أن الخيار الفقهى فى عقد البيعة هذا- سواء فى تكييفه أو طبيعته- ملزم لصاحبه غير ملزم لغيره) حاضر فى المعرفة والسلوك التربوى فلا يُنظر لمن رأى وجه إعذاره فى سبيل آخر وفك عقد البيعة هذا أنه ارتكب إثمًا؟ بل هل كل قطاعات الإخوان فى دول العالم تتبنى فكرة البيعة أصلا؟ وهل يشكك الإخوان فى إخوانية هذه التنظيمات مع أنها لاتتبنى مسألة البيعة؟ حتى الشيخ سعيد حوى الذى رأى مثل هذا الرأى وقع فى بعض تناقض، حيث إنه رأى أن فك عقد البيعة هذا- وقد روى عنه أنه فعله- يلزم كفارة اليمين لاغير (فهو تعامل مع البيعة العامة كبيعة خاصة قائمة فقط على اليمين). مع أن الشيخ سعيد حوى كان يرى أن البيعة الخاصة ليست ملزمة بذاتها ولاتوجب سمعًا ولاطاعة، وإنما الملزم هو ماتكون البيعة عليه إن كان واجبًا، ولهذا تحول لخيار البيعة العامة الاجتهادية- كما فى آفاق التعاليم. وعقد البيعة العامة لا يشمل خيارات تفصيلية ومنهجية فى جوانب فكرية وحركية وتربوية، ولكن فقط السمع والطاعة للإمام السياسي، أما بيعة الإخوان فمفصّلة. وماذا إن رأى شخص أن ما بايع عليه من المنهاج ليس حاضرًا ورأى أن الطرف الآخر قد نقضه، فهل يستقيم كل هذا مع التكييف السابق؟ ولهذا فالرأى الأرجح أن بيعة الإخوان هى بيعة خاصة.. وهى بمثابة عقد (رضائى) بين الطرفين على منهج بعينه، وهذا يقتضى وضوح المنهج بين المتعاقدين، ووضوح دوائر الولاء.. يعنى الطاعة للجماعة وأميرها ليست مقدمة على الطاعة للدولة وأميرها مثلا خصوصًا إذا أتى الأخير بعقد سياسى صحيح غير مزور. والخروج من الجماعة وفك البيعة ليس مظنة الإثم إذا رأى الشخص مسارًا إعذاريا أولى فى حقه، أو رأى نقضًا للعهد المتفق عليه- بل يكون واجبًا فى حق الأول وجائزا فى حق الثانى أن يبقى لإصلاح أو يفارق.