لم أندهش من الصدام الإعلامي الحاد بين الزميلين العزيزين، ضياء رشوان وعماد جاد، وكلاهما ينتمي إلى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وذلك على خلفية ما وقع مؤخرًا من أحداث، والحديث عن أهمية مواجهة التطرف من قبل الجانبين، المسلم والمسيحي، عماد غضب غضبًا شديدًا لنسبة التطرف إلى الجانب المسيحي، وبدا شديدَ العصبية وهدد بمغادرة الاستديو ووقعت ملاسنة بين الاثنين، رغم أن المسألة لا تستحق؛ لأن التطرف أصبح ظاهرة إنسانية عالمية، وليست حتى محلية، ولا تختص بدين من الأديان، فعلو موجة اليمين المسيحي المتطرف في أوروبا وأمريكا ظاهرة للعيان ووصلت إلى حد الاعتداء على مساجد وتدنيسها وقتل مواطنين لمجرد الاشتباه في أنهم مسلمون، وكذلك ظهور موجة التطرف البوذي الذي اشتهر بالتسامح واضحة للعيان ونددت الأممالمتحدة بما يفعله الرهبان في ميانمار تحديدًا ضد مواطنيهم المسلمين. وبالتالي، فالحالة المسيحية في مصر ليست استثناء من هذه الظاهرة، ويكفيك جولة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك صفحات خاصة بمواقع إخبارية ودينية مسيحية مصرية داخل مصر وخارجها، لتكتشف مستوى الكراهية والتحريض والتطرف، فضلاً عن ممارسات نزقة فعلها البعض في صعيد مصر وأدانها القضاء المصري، وهي كلها بفعل تحريض بعض المتطرفين في الجانب المسيحي، ولكن يحسب لقداسة البابا تواضروس حرصه على احتواء تلك المظاهر وعدم الاستجابة للتحريض والتطرف والانفعالات الزائدة وهو ما حجّم من الظاهرة وقلّص مساحات التحرك أمام أصحابها. لكن مسئولية الكنيسة المصرية لا ينبغي أن تتوقف عند ذلك الحد، فلا بد من خطاب كنسي معلن وواضح يدين أي مظهر من مظاهر التطرف في الحالة المسيحية، وتحذير من دعاة الفتنة ومن الأصوات النزقة في الداخل أو الخارج، ومعاقبة أي رجل دين ينتسب إلى الكنيسة المصرية إذا ثبت تحريضه على الكراهية الدينية، كما أن مصر بحاجة وهي تواجه الانقسام المجتمعي الذي يراهن عليه الإرهاب إلى خطاب ديني كنسي جديد يدفع باتجاه الاندماج الوطني والشعبي للأقباط في المجتمع والمؤسسات والأحزاب والحياة العامة، مع تقلص دور الرعاية الكنسية إلى حدود الحالة الروحية، ينبغي أن نطوي المرحلة التي تمثل الكنيسة فيها بديلاً للدولة وبديلاً للوطن، الدولة هي المعنية برعاية مواطنيها، مسيحيين ومسلمين ، ومؤسسات الدولة وأجهزتها هي التي ينبغي أن يلجأ إليها المواطن المسيحي، لإنصافه أو حمايته، وليس الكنيسة، ولا يصح أن تتحول الكنائس إلى ساحات احتجاج سياسي شعبي عند كل مشكلة أو أزمة. كذلك ينبغي أن تطوي الكنيسة صفحة الاشتباك السياسي مع النزاعات والصراعات السياسية الداخلية في الوطن، الكنيسة ليست طرفًا في أي صراع حزبي أو سياسي داخلي، ولا ينبغي أن تكون، وهذا الأمر يتحتم أن يكون حاضرًا في خطاب كنسي جديد واضح المعالم، وفي سلوك يتبعه، لا يصح أن تتورط الكنيسة أو بعض رجالها في الحشد لموقف سياسي عند الاستفتاءات أو الانتخابات بمختلف صورها ومستوياتها، برلمانية ورئاسية وحتى نقابية، وقيام الكنيسة بحشد المظاهرات السياسية في بعض المواقف هو سلوك غير حكيم، وضرره أكثر من نفعه للوطن، وقد أبدى بعض الأقباط أنفسهم استياءهم الشديد من قيام الكنيسة بحشد رعاياها في أمريكا للتظاهر في أماكن تواجد الرئيس عبدالفتاح السيسي دعمًا له، ردًا على تظاهر بعض القوى المعارضة، هذا سلوك يصنع حالة من الاستقطاب الطائفي الحاد ومصر في غنى عنها الآن، كما لا يصح أن يجري قيادات دينية كنسية رفيعة لقاءات صحفية أو تليفزيونية فتهاجم بعض القوى السياسية وتدافع عن أخرى وتتهم بعض الأحزاب وتطعن بعضهم من وطنيتهم، هذا ليس دور الكنيسة ولا قياداتها، بل هذا لا يخدم الوطن نفسه وسلامه الاجتماعي، خاصة في ظل أوضاع ملتهبة وملتبسة ومتشنجة من جميع الأطراف، تحتاج إلى الحكمة وليس إلى صب المزيد من الزيت. مصر بحاجة إلى خطاب ديني جديد، أكثر استنارة وأكثر حداثة، وأبعد عن الاشتباك مع السياسة ولهيبها، وأعتقد أن مسئولية الكنيسة كبيرة في بلورة مثل هذا الخطاب في الجانب المسيحي، وتطوير خطابها الديني وأدائها أيضًا؛ لأن نجاحها في ذلك سيكون علاجًا للتطرفين: المسيحي والإسلامي على حد سواء، بشكل مباشر أو غير مباشر.