على الرغم من أن البابا شنودة الثالث بابا الكنيسة الأرثوكسية السابق كان يتصف بالتشدد أحيانا في الموقف من القضايا ذات الطابع الطائفي ، إلا أنه كان ذكيا وحذرا جدا في ما يتعلق بالموقف السياسي والاشتباك فيه ، وهذا للأمانة ما يميزه عن خلفه البابا تواضروس الذي وضح اندفاعه المثير في الشأن السياسي بدون تحفظ ، وبشكل يعرض البلاد كلها لخطر حقيقي ، وليس فقط أبناء الكنيسة الأرثوكسية ، عندما يضعهم في أتون محرقة سياسية لا ينقصها "البنزين" الطائفي ، وكان البابا تواضروس في بداياته وفور تنصيبه حريصا على هذه المسافة بين الديني والسياسي ، وعندما كان بعض الصحفيين أو الإعلاميين يجروه إلى الشأن السياسي كان يرفض ، ولكن بعد 3 يوليو والإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي ونظامه ، انفلت العيار كثيرا من الرجل ، وأصبح لا يخلو حوار صحفي له ولا لقاء من الخوض المباشر وغير المتحفظ في الشأن السياسي ، وبآراء صادمة ومثيرة وشديدة الاستفزاز لقوى سياسية فاعلة ، سواء داخل مصر أو خارجها ، وهو الأمر الذي يعرضه للنقد الشديد والهجوم الجارح والإهانة أحيانا ، لأن معترك السياسة يختفي منه أو يخف إلى حد كبير مشاعر القداسة والاحترام والهيبة لرجال الدين ، إضافة إلى تحويل الصراع السياسي إلى فضاء آخر بأبعاد وخلفيات طائفية . مناسبة هذا الكلام الحوار الذي أجراه البابا تواضروس مع تليفزيون الوطن بدولة الكويت الشقيقة ، ونقلته عنه صحيفة الوطن ، وقال فيه كلاما خطيرا ما كان يليق به كرمز ديني لطائفة دينية أن يتورط فيه ، فقد علق على حكم محمد مرسي قائلا : (الإخوان قدموا صورة مشوهة كان لا بد من محوها سريعا، وأوصلت شعبنا كله بمسلميه ومسيحييه إلى إجماع على رفضه والتخلص منه) مضيفا في وصف فترة حكم مرسي : (لم تكن تليق بأي حال من الأحوال بمصر الحضارة والتاريخ، على الرغم من أنه كان يحكم باسم الدين) ، والعبارة الأخيرة تعطي إشارة لما لا يمكن إخفاؤه من أن موقف البابا من مرسي كان يتصل بالتزامه بأحكام "الدين الإسلامي" ، حسب تصور الرمز المسيحي الكبير ، وهو ما يعزز من الدعاية السياسية لأنصار مرسي بأن الكنيسة خاضت المواجهة على أساس ديني وأن خصومتها لمحمد مرسي ، رغم محاولاته ترضيتها مرارا ، كانت تستحضر خصومة طائفية بالأساس وكراهية للإسلام ، ويعزز من هذا المعنى ما يضيفه البابا في ذات الحوار عن يوم إطاحة مرسي بقوله : (لم يكن يوما عاديا للمصريين -مسلمين ومسيحيين- إذ ولد حالة إجماع وتلاحم رائع للتخلص من حكم الإخوان ، .. إن الراهبات كن يحملن العلم المصرى جنبا إلى جنب أخواتهن المحجبات في لحظة تاريخية فارقة في تاريخ الشعوب) ، فما الذي أخرج راهبات للمشاركة في مظاهرة سياسية لإسقاط رئيس الجمهورية ، وهل هذا معتاد في التجربة المصرية أو غيرها ، وعندما تخرج الراهبات يحملن العلم المصري في مظاهرة تتحدى رئيس الجمهورية وتدعو لإسقاطه فهذا يعني توجيها كنسيا ، لأن آلاف الراهبات لا يجرؤن على مثل هذا السلوك السياسي العنيف التظاهر إلا بتوجيه من الكنيسة ، وهو ما يؤكد أن الكنيسة شاركت في التخطيط والترتيب للإطاحة بحكم محمد مرسي ، وأنها شاركت أجهزة أخرى ومؤسسات أخرى في الترتيب لهذه العملية التي وصفت دوليا بالانقلاب العسكري ، ولا أظن أنه إيجابي للبابا تواضروس وكنيسته أن يعترف علنا بأنه شارك في تدبير انقلاب عسكري . لن أتوقف كثيرا عند غزله في الرئيس المؤقت عدلي منصور ، ووصفه بأنه رجل وقور يحمل المعاني السامية للقضاة، ويقود الدولة بحكمة ورؤية مستقبلية بشهادة الجميع ، فأنا لا أعرف من "الجميع" الذين يتحدث عنهم ، إذا كان أغلب القوى السياسية الآن يمين ويسار وليبراليين وإسلاميين يجأرون بالشكوى من انهيار منظومة حقوق الإنسان والاستباحة الأمنية واعتقال عشرات الآلاف بشكل عشوائي والانقسام الوطني الحاد وانهيار الاقتصاد ، فما هي الحكمة في هذه الإدارة . لكني أتوقف عند هجائه وتشهيره بثورات الربيع العربي وقوله في الحوار :(أن ثورات ما يطلق عليه «الربيع العربي» لم تكن ربيعا أو حتى خريفا، وإنما هو «شتاء عربي» مدبر حملته أيد خبيثة إلى منطقتنا العربية لتفتيت دولها إلى مجرد دويلات صغيرة) ، وهذا كلام قميئ وشديد الانحطاط ، يمسك الواحد منا أعصابه وهو يعقب عليه ، فما الذي يقحم بابا الكنيسة الأرثوكسية في شتيمة ثورة يناير والملايين الذين خرجوا فيها يحطمون نظام القمع والقهر والفساد ، ولماذا يتورط في تصويرها بأنها مؤامرة خبيثة ، وسأتجاوز عن كون هذا الكلام يمثل تطاولا على دستور البلاد الحالي الذي صوت عليه تواضروس نفسه وحشد له الأقباط رغم أنه يبرز وطنية ثورة يناير ، ولكن السؤال هو : لماذا تحتقر دماء آلاف الشهداء الذي سقطوا منذ تفجر هذه الثورة المباركة وحتى الآن ، ولماذا تحتقر دماء آلاف الليبيين والتونسيين والسوريين واليمنيين الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الحرية ، وفي وجه أنظمة حكم فاسدة وإجرامية ودكتاتورية ومستبيحة للكرامة الإنسانية ، ما الذي يغريك بالدفاع عن هذه الأنظمة ، ولحساب من تهاجم ثورات الربيع التي أطاحت بها . خطير جدا أن يتورط البابا في مثل هذا المعترك السياسي ، وأن يكون طرفا في خصومة سياسية عنيفة ولها وجه دموي ، ولا يليق به أن يصب المزيد من الزيت على النار التي تحرق الوطن الآن بينما يبحث العقلاء عمن يحاصرها ويهدئها ويطفئ لهيبها ، وليس من يأتي بغشومية ليزيد لهيبها ويهيجها ويصب بنزينا لتوسيع نطاقها ، إلا إذا كان ما يفعله البابا ويروج له ويندفع فيه الآن هو مرحلة جديدة لاستكمال الخطة التي شارك فيها منذ 3 يوليو بالتنسيق مع الأجهزة المعنية .