«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أمير المسيحيين وأمير المسلمين"


"أمير المسيحيين وأمير المسلمين"

ماذا تفعل المؤسسات الدينية في دولة مدنية؟
هل انتهت الأزمة التي فجرتها التصريحات الطائفية ل(أسقف التطرف الديني) في الكنيسة الأرثوذكسية المعروف علنا باسم الأنبا بيشوي؟.. الإجابة من الناحية الظرفية والشكلية هي (نعم) انتهت. لكن هذا لا يعني أن الموقف قد عولج بالكامل من جذوره.. أو أن الملف قد أغلق تماما.. علي العكس لقد انفتح علي مصراعيه.. ذلك أن بعض ما جري في طريق إغلاقه أنتج بدون قصد (بذورا) يمكن أن تنبت توترا أعمق.. لم يكن من الممكن اجتنابها.. خاصة أن الإغلاق تم ب (اعتذار) من قداسة البابا شنودة الثالث.. أدلي به تليفزيونيا.. وأذيع علي نطاق واسع.. وهي خطوة تاريخية تحسب له.. وينبغي أن تقدر في سجله حتي لو كان أسماه فيما بعد «أسف» علي ما قال بيشوي.. وليس اعتذاراً.
الاعتذار، المُطفئ لحريق كاد يشتعل، حدث استثنائي، لابد أنه ترك «غصة» في نفوس عدد من الأقباط، هو موقف اضطراري، لعلاج مأزق لم يخطط له أحد.. ولم تسع إليه الكنيسة.. لكن اندفاع (الأسقف المتهور والمغرور) الأنبا بيشوي أدي إليه.. وباعتباره (بيشوي) من أهم قيادات الكنيسة فإن قداسة البابا قد تصدي لمسئولياته دون انتظار لموقف كان علي بيشوي أن يتخذه.. وحتي لو أخذه فإنه لم يكن سوف يصبح مقنعا.. وأصعب المواقف تلك التي يكون فيها علي صاحبها أن يأخذها مضطرا.. ولكن «مقومات الزعامة» التي يتمتع بها البابا شنودة بقيمته التاريخية ومكانته الوطنية قد دفعته إلي ابتلاع الآثار السلبية للاضطرار.. فهل يعني الابتلاع أنه سوف يتلوه (هضم)؟
تحامق بيشوي، فدفع قداسة البابا بل والكنيسة كلها الثمن، كما أن بقية أبناء الوطن دفعوا نصيبا من هذا الثمن.. اعتذر البابا.. لكن المسلمين لم يسعدوا وهم يرونه مدفوعا بمسئولياته الوطنية إلي ذلك.. فالاعتذار ليس هو طريقة التفاهم بين عنصري الأمة.. عوضا عن أن ارتكاب الخطايا ليس هو الأسلوب الذي كان لابد لبيشوي أن يلجأ إليه حتي يلبي نرجسيته ويسدد شراهة طموحه ويمضي في غيه المنفلت.. أنهي الاعتذار موقفا لكنه لم يسعد لا المسيحيين ولا المسلمين.
- المخطئون
لقد أخطأ كثيرون، من جانبي عنصري الأمة، من قبل، في عقيدة الآخر.. إن كان الإسلام أو المسيحية.. فعلها المسلمون وفعلها المسيحيون.. ليس علي أحد أن يدفن رأسه في الرمال ويتجاهل تلك الحقيقة.. غير أن الأخطر كان في هذه المرة هو أن بيشوي قيادة دينية تنتمي إلي الكنيسة.. له موقعه وحوله تابعوه ويكتب البعض مؤيدا له في الصحف، وطموحه لم يعد سرا وقد حول هو «أنصار طموحه» إلي مؤسسة.. أصبح بيشوي عمليا كنيسة داخل الكنيسة.. ومن ثم فإن المسلمين والمسيحيين لم يقفوا فقط عند المعاني المروعة والخطورة اللحظية لكون بيشوي تحامق بما قال.. وإنما نظروا إلي ما هو أبعد.. وإلي احتمال أن يعتلي رجل بهذه المواصفات مقعد البطريرك في وقت ما.. فساور الرعب المستقبلي عنصري الأمة وليس عنصرا واحدا.
إن السكوت علي الخطايا الصغيرة المتبادلة هو الذي أنتج الخطيئة الكبيرة، والتعامل الصامت مع الإهانات التي توجه إلي العقائد من أصوات هنا أو هناك بدون وعي نتائج هذا الصمت الخطر، هو الذي كان لابد أن يقود إلي إساءة بيشوي غير المقبولة.. وإذا كان عنصرا الأمة يتحملان المسئولية عن المناخ الذي أسفر عن هذا التهور غير المتوقع من (أسقف التطرف).. فإن الكنيسة بدورها تتحمل قبل غيرها نتيجة الصمت عن تحامق سابق لبيشوي ذاته.. حين أخطأ في حق الإنجيليين قبل نحو عامين.. ويتحمل المسلمون نفس الجريرة حين صمتوا عن خطيئته السابقة في حق الإنجيليين.. وحين تذرعوا بأن ما بين الطوائف المسيحية لا يخص الآخرين.
لست أدري علي أي أساس رسخ في ذهننا أن تعريف (التهديد الطائفي) أنه كل ما بين المسلمين والمسيحيين.. بدون أن ننتبه إلي أنه يمتد ليشمل ما بين المسيحيين والمسيحيين.. وما بين المسلمين والمسلمين علي اختلاف مذاهبهم.. الإصابة التي لحقت بالإنجيليين أكثر من مرة من الكنيسة الأرثوذكسية علي يد بيشوي وغيره كانت تهديدا طائفيا.. والإصابة التي لحقت بالمسلمين من أصوات لفظتها الكنيسة الأرثوذكسية هي تهديد طائفي.. والإصابة التي لحقت بالأرثوذكس من أصوات مسلمة عديدة ليست في مواقع المسئولية الدينية هي تهديد طائفي.. والصخب الذي يثور حينا من بين شيعة أو بهائيين أو لا دينيين في اتجاه الإسلام داخل مصر هو بدوره تهديد طائفي.. وكل هذا أمر واجب الحسبان لا النسيان ولابد أن يخضع إلي الانتباه.. حين نهمل بعضه فإنه يؤدي إلي غيره.. وعندما يتم تجاهل أصغره فإنه يقود إلي أكبره.
- جذور وقشور
إن للأزمة جذورا وأطرافا.. ويحيط بها مناخ أدي إليها.. وكل هذا يحتاج إلي مراجعة وتمحيص. بطل الأزمة هو أسقف التطرف الأنبا بيشوي، وهو نوع من رجال الدين الذين أنتجتهم المرحلة الأخيرة، لديه مريدون، وتابعون، وعنده سطوة، ونفوذ، وحتي لو كان يخضع لقيادة قداسة البابا فإنه يمثل تحديا له، إن الأزمة التي فجرتها تصريحاته الأخيرة هي نوع من التحدي السافر للبطريرك قبل المسلمين، فقد وضعته في موقف لم يكن لينبغي أن يكون فيه، وطموح بيشوي في أن يكون البطريرك معروف .. لكنه لم ينتظر حتي تحين ساعة تجري فيها القرعة المقدسة.. وإنما مضي إلي تعجل الزمن واستعجال الأيام بأن يطرح نفسه قيادة مناطحة وصوتها أعلي.. لاسيما في ضوء الصلاحيات الممنوحة له في بنيان الكنيسة.
إن من المدهش أن أشخاصا كانوا يشنون هجوما شديدا علي أسقف التطرف قد تحولوا إلي تأييده ومناصرته، بل إن فيهم من كان يكتب المقالات ضده، فأصبح ينشر الإعلانات المساندة له مدفوعة الأجر، ما يطرح تساؤلات حول الأسباب التي تقود إلي ذلك.. ولاشك أن هذا يرتبط بكون بيشوي قد أصبحت له شبكة علاقات صحفية مسيحية لافتة.. تكتب له وعنه.. بما في ذلك في صحف يومية.. وهو ما أدي إلي تعميق استقطاب واضح داخل الكنيسة.. بين الطرف الذي يمثله بيشوي.. والاتجاه الذي يمثله نموذج الاعتدال وفيه الأنبا موسي والأنبا يؤانس.
في طريقه إلي تحقيق الطموح العلني بأن يصبح بطريركا كان أن علقت في ذيل بيشوي وصولا إلي رقبته رواية عزازيل التي كتبها يوسف زيدان.. وهو أديب كان علي علاقة وثيقة بأسقف التطرف.. حتي إن تلك العلاقة سمحت ليوسف زيدان بأن يحصل علي وثائق أدت به إلي تطعيم روايته بكثير من تراث الكنيسة.. تلك الرواية التي لا شك أنها سببت قدرا ملموسا من التأذي للأقباط.. وحظيت لأسباب غامضة، وغير موضوعية، بصخب مهول، ومنحت جوائز، ونالت قدرا مهولا من الدعاية.
عمليا، وواقعيا، وتاريخيا، ليس هذا النوع من الأعمال الأدبية يمثل أي فائدة ما لمجتمع يريد أن يبقي موحدا، إذ لا الكنيسة سوف تغير تراثها، ولا هي سوف تتخلص مما علق به، ولا هذا العمل سوف يحقق فائدة ما للمسلمين، باختصار هو لم يحقق سوي فائدة لصاحب الرواية ودار النشر التي سوقتها علي نطاق واسع ومتعمد.. ومن المزعج أن الروائي لم يتوقف عند حد نشر الرواية، بل إنه مضي إلي تسويق خطاب فكري محدد يقوم علي انتقاد الكنيسة وتراثها.. مشفوعا بأحاديث ذهبت بعيدا في انتقاد العقيدة المسيحية.
لم تشفع لزيدان علمانيته، فهو في نهاية الأمر كاتب مسلم، وقد استخدم في عملية تسويق روايته خلفية أنه كان علي علاقة وثيقة مع بيشوي، ما وضع أسقف التطرف الطموح إلي موقع البطريرك في مأزق كبير لم ينهه أنه أصدر ردا علي رواية عزازيل.. وقد ظل بين المسيحيين هو المسئول عن تلك الرواية التي تطعن في تراث الكنيسة.. حتي لو كانت لها أبعاد أخري.
- تعويض بيشوي
المثير للتساؤل هنا هو: هل كانت الصحف الخاصة ووسائل الإعلام المسوقة لعزازيل تدرك أبعاد ما تقوم به؟ أم أن تلك كلها كانت تواصل قدرا من العبث الطامع في اكتساب أرضيات توزيعية وجماهيرية بدون اهتمام بأية أمور أعمق تؤدي إليها؟.. الأرجح أن هناك فريقا ضئيل الحجم يعرف ماذا يفعل.. وفريقا منقادا يبدو كما لو أنه يخضع لعملية تنويم مغناطيسي هو يقبلها.. ويوافق عليها.
في معرض صراعه علي موقع البطريرك كان أن حاول بيشوي أن يقوم بأعمال مختلفة تنجيه من مأزق عزازيل، وسع شبكة العلاقات، فلم يفلح، أصدر ردا علي الرواية فلم يحظ بنفس القدر من الاهتمام، شن هجوما حادا علي يوسف زيدان فوجد نفسه طرفا في صراع الاتجاه المعاكس لا يكسب إن لم يكن يخسر، فانجرف إلي هوة رهيبة.. بأن يؤكد مسيحيته وقوته الكنسية بمزيد من التطرف تلو الآخر.. وصولا إلي إهانة الإنجيليين ومن بعدهم المسلمين.
الكنيسة علي عراقتها تعاني الآن من معضلة كبيرة مع اقتراب استحقاق زمني لا فكاك منه، وفي حين تمثل كاريزما البابا شنودة اللحمة التي تربط الأوصال بحيث لا تنفصم العري بسبب تقافز الطامحين من حوله.. حيث تتقاطعهم الطموحات من جانب وضرورات الالتزام الكنسية من جانب آخر.. كل بقدر هدوئه وقدرته علي أن يلجم نفسه، فإن البابا يعاني الآن مما قدم للكنيسة.. التضخيم المهول الذي ابتدعه لها خلال سنوات ولايته لموقعه صب في صالح الكنيسة.. ورسوخ المؤسسة لكنه في ذات الوقت أصبح قيدا عليه.. لقد كان متاحا في وقت مضي أن يسيطر علي كل العناصر التي أنتجتها فترته.. لكن عوامل عديدة تداخلت بحيث لم يعد هذا ممكنا الآن.. خصوصا أن الكنيسة تعيش فترة رمادية معروفة المواصفات.
إن الأساقفة من حوله يتضخمون.. وسعوا مساحات المرونة التي أعطاها لهم .. كل يمكن أن يقوم بدور بدون الرجوع إلي القاهرة.. للدقة هم يبادرون بالعودة إلي القاهرة حين تتأزم الأوضاع.. ليس لكي تنقذهم مما فعلوا.. وإنما لكي يصدروا إلي البطريركية مشكلات اصطنعوها.. وغالبا ما تكون العودة من جنس العمل الأول ذات مواصفات طائفية.. هادفة إلي إحداث الصخب السياسي والإعلامي.. بحيث صار من المعتاد أن يدفع أي أسقف محلي بالعشرات من الشباب إلي ساحة البطريركية تظاهرا.. فيصبح البطريرك تحت قيودها بينما يعتقد البعض أنها تسانده.
وبالقياس علي هذا، فإن اتساع الكنيسة الخارجي في المهجر، في عصر الازدهار الذي قاده الأنبا شنودة، تحول بمضي الوقت، مع وجود عوامل أخري، إلي قيد إضافي علي البابا نفسه.. هذا البحر العرمرم من الكنائس المهجرية التي تحيط بها اتجاهات تتلبس الثياب العلمانية في العواصم المختلفة.. أغرق الكنيسة في متطلبات ومطالب رفعت سقف النقاش في اتجاه الوطن.. وصولا إلي أفق غارق في الطائفية.. وهو ما لا أعتقد أن قداسة البابا كان يستهدفه.
- بيت أم كنيسة
إن الكنيسة، بهذا الوضع المتنامي، الممزوج بمناخ طائفي، حولها إلي بيت حزبي للمسيحيين أكثر من كونها كنيسة لهم، أي من مجرد وعاء روحي إلي وعاء سياسي واجتماعي وربما اقتصادي، مثلت تحديا لا تقصده لمواصفات الدولة المدنية.. وفي ذات الوقت الذي سعت فيه الدولة إلي أن تكون أكثر عصرية ومقاومة للمناخ المتطرف في المجتمع.. فإن الكنيسة التي يفترض أنها تستفيد من مدنية الدولة لا تطرف المجتمع.. كانت دون أن تدري تدفع في اتجاه يؤدي إلي عكس مصالحها وعكس مصالح المسيحيين.. وليست ظاهرة أسقف التطرف بيشوي سوي إحدي نتائج ذلك.
عمليا كانت تصريحات بيشوي مثالا جليا علي ذلك.. فهو أمد التطرف الديني الإسلامي بما يريد بكل وضوح، بل إن توقيت تصريحاته المريب والغريب.. وربما غير المقصود.. ساهم بشكل أو آخر في تعضيد المكانة السياسية التي يمكن أن تتحصلها جماعات متطرفة بينما نحن علي أبواب انتخابات من المتوقع أن تشهد إقبالا كبيرا من المرشحين المسيحيين .. وهو ما أعتقد أنه قد يكون أحد الأسباب التي أدت إلي اعتذار البابا شنودة.. أو أسفه.. أيا ما كان المسمي الذي يراه لائقا.
- بيان الأزهر
الطرف الثاني في الأزمة، المتلقي، كان هو المؤسسة الدينية الإسلامية.. الأزهر الشريف.. ومبدئيا لا يمكن إلا أن نشيد بالبيان الذي نتج عن اجتماع طارئ لمجمع البحوث الإسلامية بقيادة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب.. وقد تلاه مقال مهم نشره مفتي الديار في جريدة الأهرام.. وكانت هذه الخطوات تحسبات واجبة في إدارة الأزمة.. وحسنا فعل الأزهر بإقدامه علي ذلك البيان.. بلغته الأقرب إلي الحسم.. والواعية بالمخاطر الطائفية للأمر.. لأنه لو لم يفعل لكان قد ترك قيادة الشارع المسلم إلي مبعثرات طائفية متطرفة تتقافز بدورها من حول مؤسسة الأزهر.
البيان الذي ركز علي الهوية الإسلامية للمجتمع، وبنص دستورها، كما لو أنه يعيد إلي الساحة جدلا حول نص المادة الثانية من الدستور، ألجم قوي كانت تريد أن تتصدي هي - ولم تزل تحاول - لأسقف التطرف.. وحاولت أن تختصر الموقف في أنه نزاع ما بين أمير المسيحيين بيشوي وأمير المسلمين محمد سليم العوا.. فإذا كان بيشوي رجلا ذا حيثية دينية.. تري من أعطي العوا الصلاحية لأن يكون متحدثا باسم المسلمين نائبا عنهم في أن ينال ما اعتقد أنه ثأر لهم؟
لقد مرت المؤسسة الدينية الإسلامية بمرحلة انتهت، ليس فقط بوصول شيخ أزهر جديد، ولكن أيضا بهذا الاجتماع الطارئ الذي عقده مجمع البحوث الإسلامية، ومن هنا فإن هذا الاجتماع بقيادته لابد من البناء عليه.. في سبيل مد مظلة المؤسسة الدينية علي الجميع.. بحيث لا ينازعها في مصداقيتها وشرعيتها أولئك الآخرون الذين يعتقدون أنهم الإسلام.. ويطعنون في مصداقية المؤسسة من أجل أن يختطفوا دورها.
- مهام حتمية
وتطرح الأزمة، التي يفترض فيها أنها مرت، تساؤلات جوهرية حول دور المؤسسة الدينية.. مسلمة أو مسيحية.. في دولة مدنية .. قياسا علي موقف مجمع البحوث الإسلامية وقياسا علي موقف قداسة البابا.. فهل تصديها للقيادة الدينية للعنصرين يناقض السعي الحثيث إلي مواصفات الدولة المدنية؟
لست أساند غلاة التطرف العلماني، أولئك الذين يرون أنه لابد من إبعاد المؤسسات الدينية عن أي تفاعل مجتمعي، هؤلاء لا يعرفون حقيقة ثقافة المجتمع المصري القائمة علي مقومات دينية عريقة.. حتي لو كان السلوك العام لا يقوم علي استيحاء الأخلاق الدينية بشكل مستمر.. ومن ثم فإن المؤسسات الدينية لابد أن يبقي لها دور أصيل في إدارة منظومة قيم المجتمع وسياقه الروحي.. بشرط ألا يثير هذا طمع المؤسسات الدينية في أن تعتقد أنها قيادة سياسية لهذا العنصر أو ذاك.
الحضور الروحي للمؤسسات الدينية بخطاب عصري ومتعقل ومنفتح، ويصب كذلك في صالح الدولة المدنية، يمكن أن يعوق نمو التطرف، وإذا كان الأزهر أكثر صلاحية الآن لهذا.. فإن الكنيسة سوف تحتاج إلي فترة من الوقت لكي تكون قادرة عليه.. لأنه لا يمكن مطالبة قداسة البابا شنودة بتحولات تاريخية في التوقيت الحالي.. وإن كان من الممكن مطالبته بالارتكان إلي مقومات زعامته حتي يحافظ علي مستوي يراه ونراه مطلوبا لحماية المجتمع من أية انجرافات طائفية.
إن هذا لا يعني علي الإطلاق أن المسئولية يجب أن تلقي بأكملها علي المؤسستين الدينيتين.. بل إن هذا حين يحدث يؤدي إلي ضرر عظيم.. وعكس ما نرمي إليه من أهداف.. وإنما الأمر يتعلق بخطاب ثقافي وإعلامي وتعليمي متكامل.. ولا يقتصر علي الأفكار الدينية وحدها.
- رسالة أخيرة
ومن ثم فإنني أترك نهاية هذا المقال إلي رسالة وصلتني من قارئ مسيحي يعبر فيها عما يخالجه.. لعل هذا يفيق المجتمع مما اعتراه من طائفية:
«أنا أرفض كل الرفض تعليقات الأنبا بيشوي التي تهدد السلام الاجتماعي.. والعملية مش ناقصة، بل أعتبره من دعاة الفتنة والتخريف، ولكن لماذا قامت الدنيا ولم تقعد علي كلام بيشوي؟ ومحدش قال حاجة علي كلام سليم العوا وكلام محمد عمارة ونبيه الوحش وشيوخ من الأزهر في أن الكتاب المقدس هو كتاب محرف؟ وكل الأكاذيب والافتراءات والجهل الذي يملأ الجو المحيط بنا؟
لماذا لم يرفض أحد ما يتعرض له أبناء الأقباط من العنصرية والاضطهاد داخل الكليات وخاصة كليات الطب في الامتحانات الشفوية بحجة أنه لا يجوز لطبيب قبطي الكشف علي مسلمة؟ما كل هذا الظلم والاضطهاد!
حتي إن بعض الأغبياء يطالبون الأقباط في القرن الحادي والعشرين بدفع الجزية وهم صاغرون أي أذلاء؟
في أي مجتمع نعيش؟ وما كل هذا؟
لماذا لا يوجد من يحاكم أنصاف المتعلمين الذين يعتلون منابر الزوايا ويطلقون التهديد والوعيد للأقباط وتحريض المجتمع الإسلامي علي قتلهم أو علي الأقل عدم التعامل معهم ومحاصرتهم ومحاصرة أبنائهم؟
أنا آسف بجد لما وصل إليه الحال في مصر التي نعشقها وليس لنا وطن سواها. وأسأل مرة أخري: أين الدولة؟ أين القانون؟».
لقد كانت تلك رسالة من القارئ منير شكري.. وهو شاب لايمكن أن أصنفه من خلال معرفتي بإسهاماته بأنه متطرف.. وهذه الرسالة هي أخف ما وصلني.. وهي تعيدنا من جديد إلي ما كنت قد بدأت به المقال: انتهت الأزمة شكلانيا.. لكن الأمر أعمق من مجرد اعتذار وأبعد منه بكثير.
عبد الله كمال
يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة على موقعه الشخصى
www.abkamal.net
أو موقع روزاليوسف:
www.rosaonline.net
أو على المدونة على العنوان التالى:
http//alsiasy.blospot.com
أو على صفحة الكاتب فى موقع الفيس بوك أو للمتابعة على موقع تويتر:
twitter.com/abkamal
البريد الإلكترونى
Email:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.