تقف مصر والمصريون فى هذه الآونة على مفترق طرق تاريخى، مع الانتقال من نظام شارف على الانقضاء تاريخياً، إلى نظام جديد، تتحدد ملامحه من خلال وضع أسس تحكم العلاقات فى المستقبل، وفى مقدمتها الدستور. والمخاض المصاحب لمولد النظام الجديد ليس سهلاً ومن المؤكد أنه مصحوب بآلام، ومحمل بأثقال من الماضى القريب والبعيد، وهى أثقال تحد من التطلع للمستقبل. فى مثل هذه اللحظات الفارقة، تميل الشعوب عادة إلى التطلع للمستقبل وطى صفحة الماضى أملاً فى أن يساعدها ذلك على فتح صفحة جديدة يستهلون بها عهودهم الجديدة، ولم يكن هذا التحول بسيطاً وكثيراً ما يكون صعباً ومحفوفاً بالمخاطر، لكن التجارب المختلفة تقول إن هذا الاختيار الإستراتيجى ممكن، خصوصاً إذا تزايدت الفجوة بين ما يعيشون فيه وما حققته وتحققه شعوب أخرى من تقدم. لنعترف بداية بأن هذا الاختيار ليس سهلاً فى مصر. فلمصر تاريخ طويل وحافل يثقل الظهور ويصعب الخروج من أسره.. تقاليد تراكمت على مدى قرون طويلة حفلت بأحداث جسام خلخلت أسساً وتكوينات وأقامت أسساً وتكوينات جديدة، وشهدنا أحياناً جمود التاريخ رغم انتقال الجغرافيا. فى هذه الحالات، غالباً ما يكون الاختيار الأمثل هو العودة للماضى بحثاً عن قيم دافعة للتقدم وعن حلول لمشكلات تعوق التحرك نحو المستقبل. ومن بين الأمور التى تزيد من صعوبة المخاض ومن بناء العيش المشترك هى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين أتباع أكبر ديانتين فى مصر. ورغم استقرار العيش المشترك على مدى قرون إلا أن هذه العلاقة قلقة، وهى الأكثر تأثراً بالسياسة وتحولاتها، وهناك حاجة ملحة لإعادة نظر فى العلاقات سعياً لإعادة بنائها على أسس جديدة. الحقيقة التى لا مفر منها أن الإسلام لم يعرف فى عصر الدعوة أشكال الصدام التى حدثت مع اليهود أو الوثنيين - مع المسيحية أو المسيحيين، أن الرسول استضاف نصارى نجران وسمح لهم بإقامة الصلوات فى مسجده، وأفضت مباحثاته معهم على اختيارهم البقاء على مسيحيتهم وقبول دفع الجزية. وحتى تكتمل الصورة فإن قبائل بنى تغلب النصرانية رفضوا دفع الجزية مع البقاء على مسيحيتهم على أن يقوموا بحماية حدود الدولة من ناحية توطنهم. فضلا عن شهادة القرآن الكريم بأن المسيحيين هم الأقرب مودة للمسلمين.. والحقيقة أيضاً أن الأقباط لم يدخلوا فى قتال مع جيش عمرو بن العاص لا من قريب ولا من بعيد "بل وقفوا يتفرجون فى شماتة على القتال بين العرب والرومان". ولمن لم تتح له الفرصة لقراءة أمهات الكتب، يمكنه مراجعة هذه العبارة فى كتاب تاريخ الكنيسة، (لأسد رستم، مؤرخ الكرسى الأنطاكى)، وقصة الكنيسة القبطية (لإيريس حبيب المصرى) . والحقيقة أيضاً أن المفاوضين الأقباط قبلوا الصلح ودفعوا الجزية التى طلبها عمرو بن العاص ورجاله - وقدرها ديناران على كل فرد - وذلك قبل تسليم البلاد كلها صلحاً، وليس بعد أن دخل مصر. هذا هو التاريخ وهذه هى الحقيقة الكاملة غير منقوصة.. وأن هذا الود ساد العلاقة بين المسيحيين والمسلمين من الحبشة جنوبًا إلى مصر والشام شمالاً لعقود ممتدة. وعلى الرغم من أن الخلاف على طبيعة السيد المسيح كان موجوداً منذ البداية إلا أنه لم يكن قط سبباً لعنف أو لاشتباك. وأكرر هذا كان شكل العلاقة بين المسيحيين والمسلمين منذ عصر الدعوة، والتى لا أعرف على وجه التحديد متى تبدلت هذه الصورة المسالمة، أو ما هى الدوافع التى جعلت بعض ولاة المسلمين يتحولون إلى القسوة على الأقباط وإيذائهم؟ ولكن الصراع على الهوية ربما يكون قد بدأ مبكراً بقرار مروان بن الحكم والى مصر بتعريب الدواوين فى عهد الخليفة عبد الملك بن مروان. على أية حال فإن متغيرين كبيرين خيما على تاريخ العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى عصور التراجع الفكرى والحضارى. الأول أن عددًا غير قليل من ولاة المسلمين اضطهدوا الأقباط، وتركوا فى سجلات التاريخ مواقف وأحداثًا لا يطيب إعادة ذكرها، تركت آثارًا مؤلمة وجراحًا غائرة فى نفوس الأقباط، وإليها ترجع ردود الأفعال السلبية التى تراكمت عبر السنين وأثمرت إحساس المرارة الذى صنع بدوره خطابًا سلبيًا عند فريق من المسيحيين . وما ينبغى أن يقال هنا للشباب المسيحى إن وصية الإنجيل هى محبة الجميع والمغفرة للمسيئين، وإن لم تعيشوا وصية الإنجيل فما معنى المسيحية بالنسبة لكم؟! فضلا عن أن هذه المآسى حدثت فى عصور جهل وتراجع، ونحن نعيش الآن فى عصور مختلفة، ونتعامل مع أجيال وبشر مختلفين ولا معنى أن يعيش الإنسان أسيراً لجراح الماضى وأحقابه. ثانياً، إن عصور التراجع هذه بعينها هى التى أثمرت جيلاً من الأئمة والمفسرين الذين نحتوا المناهج الفكرية التى تحض على كراهية الآخر وتؤجج الصراع الفكرى مع أصحاب الإيمان المغاير. ومع انتشار هذا اللون من مناهج التفسير تزايد العداء الفكرى لآخرين باسم الحماس الدينى والدفاع عن الإيمان . ومن نكد الدنيا أن تحولت النعمة إلى نقمة فى عصرنا الحديث، إذ تحولت حرية التعبير عن الرأى عبر الإنترنت والفضائيات إلى معارك رخيصة للسباب والإساءة للأديان بين مسلمين ومسيحيين لا يشكلون جموع المسلمين أو المسيحيين بأى حال، وإنما يعبرون عن تيارات فكرية بعينها مشحونة بالرفض وكراهية الآخر، ويتعين عليها أن تراجع موقفها ومنهجها من الآخرين . لقد قمنا بثورة عظيمة ولابد أن نستكملها وأن نصنع منها نقطة تحول فى حياتنا على كل الأصعدة، وليس على الصعيد السياسى وحده. ينبغى أن تشمل الثورة كل جوانب حياتنا الاجتماعية والفكرية والسلوكية والثقافية. وينبغى علينا أيضًا إعادة بناء الدولة الحديثة، ينبغى أيضًا إعادة بناء المجتمع وعقله وأفكاره وسلوكه. وبهذا ينبغى أن نبدأ بناء المجتمع بعهد جديد فى العلاقة بين مسلميه ومسيحييه: عهد يقوم على إعمال العقل والحكمة وينبذ كل أساليب الاتجار بالدين وتسخيره لصالح التطلعات للزعامية والأطماع الشخصية. عهد يحقق للدين رسالته التى تقوم على المحبة ونشر رسالة السلام والخير والإخلاص لله والحرص على إرضائه فيما نقول وما نفعل، ويعيد للدين دوره فى ترشيد السلوك وتوجيهه. لماذا لا يتخذ المسيحيون قراراً أن يعيشوا كما يحق لإنجيل المسيح حياة تقوم على المحبة والتسامح وأن يفتحوا صفحة جديدة فى علاقة جديدة مع شركاء الوطن من المسلمين الذين يمثلون، فى الواقع، أجيالاً جديدة متفتحة على الحياة ومتطلعة إلى أن تحيى حياة كريمة فى المستقبل وترغب فى طى صفحة الماضى بكل ما تحمله من جراح ومرارات . ولماذا لا يكون للشباب المسلم أسوة حسنة فى الرسول عليه السلام، وفى علاقته بالمسيحية والمسيحيين فى عصر الدعوة، ويعلون من الاقتداء بعلاقة الرسول بالمسيحيين على تفسيرات قدمها مفسرون فى عصور الانحطاط والتراجع عن التقدم وعن ركب الحضارة. لماذا لا نبدأ من جديد علاقة جديدة على الأسس التى تقوم عليهما الديانتان الكبيرتان، ومن أجل مصر جديدة، ومن أجل بناء مجتمع فاضل، ومن أجل المستقبل، ومن أجل العيش المشترك فى سلام ومودة . نحن فى بدايات الانتقال لمرحلة جديدة أحزاب جديدة تشكلت ولا تزال تتشكل، وقد يختار الأقباط قيادة دينية جديدة وبطريركاً جديداً، ومصر كلها تنتخب رئيساً جديداً والأزهر يبادر فعلياً بوثائق جديدة تدعو إلى ما يصون للمصريين حقوقهم الطبيعية والإنسانية ويحقق لهم العيش كرامًا وبناء السلام الاجتماعى ونبذ التمييز بين أبناء الوطن الواحد، ويرى فى هذا كله تحقيقاً لرسالة الإسلام ونصرته وإعلاء شأن دعوته. إنها فرصة مميزة فى حركة التاريخ للتغيير والتطلع للمستقبل ونسيان الماضى بكل جراحه وصراعاته لكى نبدأ بداية حضارية عقلانية نصنع بها مجتمع التقدم وشراكة الوطن ورفعة الإنسانية . إنها دعوة إلى السلام الحقيقى، تُقت كل حياتى أن أجد الفرصة المواتية لكى أطلقها: وأظنها قد حانت، وكل أملى أن تجد هذه الدعوة صدى حقيقياً ومردوداً قوياً فى عقول الشباب المصرى مسلمين ومسيحيين على السواء. رئيس المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]