لا تزال أوروبا تعيش على وقع الفضيحة التي هزّت كل دول الاتحاد، والتي تتعلق بتلك الأخبار التي تتحدث عن وجود معتقلات سرّية تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إي) بناء على السبق الذي أحرزته جريدة (الواشنطن بوست) أوائل شهر نوفمبر، حينما أخرجت للعالم هذه القضية بعد أن ظل التكتم يلفها، و بعد أن لم يتعد نضال منظمات حقوق الإنسان الدولية مجرّد التنديد بظروف اعتقال أولئك الذين تشتبه الإدارة الأمريكية في ضلوعهم بالنشاطات التي تسميها "إرهاباً"، فضلا عمّا تسرب من صور سجن أبو غريب العراقي. الصحف الأوروبية تناولت الموضوع باهتمام كبير و راحت، كل على طريقتها، تحث الحكومات في بلدانها على ضرورة تسليط مزيد من الضوء على هذه الأخبار؛ إذ إن الأوروبيين -على اختلاف نزعاتهم و توجّهاتهم السياسية و حتى مواقفهم من الحرب وفق المفهوم الأمريكي- يجمعون على ضرورة ألاّ يتم أي شيء خارج الأطر القانونية التي يُفترض أنها المرجع لكل نشاط أمني، سياسي و حتى استخباراتي. "إن احتمال وجود مراكز احتجاز سرية إلى جانب تلك النشاطات المريبة ل(السي آي إي) في أوروبا هي في الواقع أخبار تجعل أحاسيس الامتعاض في بروكسل تبلغ أقصى حدودها" بهذا الكلام عبرت جريدة (لوتون) السويسرية عن الموضوع، و فعلاً فإن المفوضية الأوروبية زيادة على أنها عبّرت عن إدانتها لهذه التهم الخطيرة إلا أنها- حسب ذات اليومية الصادرة في جنيف- أكدت عدم قدرتها على اتخاذ أي إجراء: "في قمة الاتحاد الأوروبي، لا أحد يرغب في أن يتولى مهمة التنقيب في هذا الملف القابل للانفجار على الرغم من تلك الطلبات المتزايدة بضرورة القيام بذلك من قبل بعض النواب الأوروبيين". على صعيد الأفعال، لا يمكن للمفوضية الأوروبية سوى البناء على تصريحات المسؤولين في البلدان الشرقية من أوروبا، و هؤلاء الأخيرون سارعوا إلى النفي بطبيعة الحال، لتواصل الجريدة- و استناداً إلى مَن أسمته "موظفاً أوروبياً"- والذي قال: "إنه و في غياب الأدلة، لا يمكننا إلا أن نصدق هؤلاء المسؤولين الشرقيين؛ بما أننا لا نمتلك أي سلطة شرعية تتيح لنا إجراء تحقيقات في الموضوع". في هذا الإطار، تأتي مبادرة الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي -التي تضم (46) بلداً عضواً- بقرارها القيام بتحقيق في القضية لتخفف من الضغط بشكل كبير على بروكسل حيث مقر المفوضية، و يوم الأربعاء الثالث و العشرين من ذات الشهر، طالب الأمين العام للمجلس (تيري ديفيس) من الدول الخمس و الأربعين التي وقّعت على نص الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان -بما أن بريطانيا لم تقرر بعد الإمضاء على تلك الوثيقة- بأن تقوم بتقديم كل المعلومات و التوضيحات قبل أجل أقصاه الحادي و العشرون من شهر شباط/فبراير القادم. و في الوقت الذي لا تزال الهيئات العليا في الاتحاد بعيدة عن تفعيل أي نقاش عام حول القضية، بات الموضوع يحظى بأكبر قدر من الاهتمام في كل عاصمة من عواصم القارة العجوز خصوصاً حول قضية "هبوط" طائرات (السي آي إي) الحاملة للسجناء، ففي روما و برلين و حتى في مدريد، لم تنتظر الحكومات قرارات عاصمة الاتحاد بروكسل لتباشر التحقيقات، أما في البرتغال، والسويد، والدانمرك والنرويج فالحكومات صارت محل مساءلة من قبل البرلمانات المحلية هناك، حول ما يُقال عن قيام وكالة الاستخبارات المركزية باستعمال بعض مطارات تلك البلاد و المجال الجوي لكل منها. صحيفة (لوتون) تحدثت أيضاً عن خبر يفيد بأن سويسرا لم تعش كعادتها في معزل عما يجري في القارة: "يتعلق الأمر بطائرتين هبطتا ثلاث مرات على مدرج مطار (كوانتران) بالقرب من جنيف، مما حدا بوزير خارجية الفيدرالية إلى التعبير عن "انشغاله" لدى سفارة واشنطن في برن، على الرغم من أن الرد الأمريكي لم يأت بعد"! إن التحقيقات التي تجري في سويسرا و في باقي البلاد الأوروبية في مجملها لم يتسرب عنها -حتى الساعة- غير النزر القليل جداً، و لكن ما يثير الاهتمام في النتائج التي استطاعت الصحف الحصول عليها هو أن الأمر يتعلق دوماً بنفس الطائرات، مما يعني أن وكالة المخابرات لا تستعمل إلا طائرات محددة، ربما لا يفوق عددها أصابع اليد الواحدة في كل هذه التنقلات، و يتعلق الأمر بطائرة (بوينغ 737) تحمل الترقيم التالي (N313P)، و التي نزلت على المطار السويسري الآنف الذكر بتاريخ 24 ديسمبر/كانون الأول 2003 قادمة من واشنطن بالإضافة إلى طائرة أخرى أيضاً أمكن تحديدها، و هي من حجم أقل من الأولى لأنها من طراز (غولف ستريم 5) ترقيمها هو (N8068V)، والتي حطت بجنيف بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 2004، و كانت قد قدمت من العاصمة التشيكية براغ. في إسبانيا، تطرقت جريدة (البايس) إلى الموضوع قائلة: "إن استعمال ال (سي آي إي) لعدد من المطارات الإسبانية أثار موجة من صرخات الاستنكار، وقد تمكن رجال الدرك من معرفة أن طائرة (بوينغ 737) قد استعملت مدرج مطار (بالما) في جزيرة مايوركا -كبرى جزر أرخبيل الباليار- بتاريخ 23 يناير 2004". لقد تدخل وزير الخارجية الإسباني (ميغيل أنغل موراتينوس) أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الإسباني بتاريخ 24 من شهر نوفمبر الحالي لتقديم "توضيحات" حول الرحلات العشر ل(السي آي إي) انطلاقاً من بالما محملة بمن يُفترض أنهم "إرهابيون"، و على الرغم من أن الوزير أكد أن كل هذه الرحلات تمت داخل إطار القانون، إلا أن جريدة (دياريو دي مايوركا) التي كانت أول من تحدث عن موضوع هذه الرحلات المشبوهة في شهر آذار/مارس الماضي أصرت على أن التحقيق لا بد وأن يذهب إلى أبعد من هذا. بالنسبة لهذه الصحيفة فإن الحكومتين الأمريكية و الإسبانية: "ملزمتان بتقديم إجابات وافية"؛ لأن: "التعليلات التي قدّمها الوزير لا تعدو أن تكون تفسيرات دبلوماسية"، و تواصل متأسفة: "لا يمكن للحكومة الإسبانية أن تواصل التعتيم؛ لأنه -و ابتداء من اليوم- لا بد أن تخضع كل طائرات (السي آي إي للتفتيش)". صحيفة (دياريو) و التي تصدر من مايوركا مثلما هو واضح من اسمها، استشهدت بالموقف الذي اتخذه سلف رئيس الحكومة الحالية، (خوسيه ماريا أثنار) في 2002 حينما قرّر تخفيض درجة التفتيش بالنسبة للطائرات الأمريكية التي تعبر الأجواء أو تحط في الأراضي الإسبانية، إلى جانب قراره بعدم ضرورة أن تعمد تلك الطائرات إلى "إطلاع الحكومة الإسبانية على كل تفاصيل نوع و هدف كل رحلة". إنه حتى و إن كانت إسبانيا و الولاياتالمتحدة مرتبطتان باتفاقية للدفاع فالحقيقة أن إدارة بوش بهذا التصرف تكون قد سخرت من "تسامح" الحكومة الإسبانية معها، أو على رأي الجريدة: "إن أقل ما يمكننا فعله في مقابل هذا هو مواصلة التحقيق و إظهار كل الحقيقة". جريدة (الأنترنايشونال هيرالد تريبيون) الأمريكية لم تخرج هي الأخرى عن هذا السياق العام؛ إذ كتب محررها يقول: "من الطبيعي جداً أن تثور مشاعر كل المجموعة الدولية نتيجة هذه القضية". ويضيف: "إن الولاياتالمتحدة التي طالما عملت لسنوات طويلة في سبيل ترقية وضعية حقوق الإنسان في الديمقراطيات الناشئة في أوروبا الشرقية، تجد نفسها اليوم تجلس على كرسي الاتهام". و قبل أن يتحدث الكاتب عن ضرورة أن تقوم أمريكا بمساعدة تلك البلدان على التطور و ترقية الديمقراطية، يشير إلى أن حكومة واشنطن ملزمة بأن: "تقدم ملايين الدولارات قصد مساعدة بلدان شرق أوروبا على التخلص من كل مخلفات العهد الشمولي البائد". ويختتم كلامه بأسى كبير: "إنه لو ثبت فعلاً وجود مثل هذه المراكز فإن مصداقية الولاياتالمتحدة أمام كل العالم سوف تهتز بشكل كبير". المصدر : الإسلام اليوم