ليس من قبيل المبالغة، القول إن البيان الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة الأحد الماضى، سيكون بمثابة نقطة تحول أو بمعنى أدق نقطة العودة إلى الأصل فى علاقة المجلس بجماعة الإخوان المسلمين، وفى المشهد السياسى المصرى، ستفتح المجال أمام معادلةٍ جديدة بعد سقوط مبارك. ما قد يدفعنا إلى إسباغ هذه الأهمية على البيان المذكور هو أنه الأول من نوعه، فلم يحدث أن أقدم المجلس العسكرى بشكلٍ رسمى طوال الثلاثة عشر شهرًا الماضية على توجيه مثل هذه الانتقادات إلى جماعة الإخوان المسلمين، فى حين جاء البيان الأخير حافلاً بمثل هذه الانتقادات، بل والاتهامات. وعلى الرغم من أن الرواية التى سادت فى وسائل الإعلام المختلفة خلال الشهور الماضية أفادت بوجود «صفقة» ما، قد تم عقدها بين الجماعة والمجلس العسكرى غداة الثورة، تنتهى بأن تشكل الأولى الحكومة فيما يقوم الثانى باختيار الرئيس، أقول على الرغم من ذلك، فإن وقائع السياسة والتاريخ كانت تنبئ بخلاف هذه الرواية، وبيان العسكرى الأخير، ومن قبله بيانات الإخوان، جاء أكثر اتساقًا مع تلك الوقائع. البيان حاول بوضوح الانتقاض من شرعية ومكانة جماعة الإخوان المسلمين، وإن لم يذكرها بالاسم، حيث اعتبر أن "العسكرية المصرية العريقة أسمى من أن تدخل فى جدلٍ مع فئة أو جماعة"، واتهمها ب "قلب الوقائع والافتراء على مكانة القوات المسلحة"، وباستهداف "الإساءة إلى القضاء المصرى العريق واستباق أحكامه، والسعى إلى تحقيق مصالح حزبية ضيقة على حساب قدسية القضاء". فى الحقيقة، استهدف «العسكرى» ببيانه هذا عددًا من الأمور، أولها أنه لم يعد يقبل بلهجة «الإخوان» الشديدة والجديدة، التى تتمحور حول المطالبة بإقالة الجنزورى وتشكيل حكومة ائتلافية جديدة بقيادة الأكثرية البرلمانية، حيث اتهمت جماعة الإخوان وحزبها السياسى فى بياناتهم الأخيرة المجلس العسكرى بإدارة البلاد "بالطريقة التى كان يديرها بها الرئيس المخلوع"، وتمسكه الكامل ب"الفشلة والفاشلين". وبالفعل فإن الخطاب السياسى لجماعة الإخوان بدأ فى الفترة الأخيرة توجيه سهام النقد مباشرة إلى المجلس العسكرى، وتحميله المسئولية كاملة وبشكل واضح عن كل الأزمات الاقتصادية والسياسية التى تشهدها البلاد. ثانيًا.. التعبير عن تمسكه بالحكومة الحالية، حيث طالب كل فئات الشعب وقواه السياسية ومفكريه وما وصفه بالإعلام الحر بالاحتشاد "لاستكمال مسيرتنا نحو الانتقال الديمقراطى الآمن للسلطة فى ظل مناخ يحترم القواعد والأعراف الدستورية". ثالثا.. وقد يكون الأهم، سعى المجلس العسكرى إلى تذكير «الجماعة» بميزان القوى القائم فى مصر الآن، وفى هذا الصدد طالب "الجميع أن يعوا دروس التاريخ لتجنب تكرار أخطاء ماضٍ لا نريد له أن يعود"، وهى عبارة تستهدف بلا شك صفحات الضربات الأمنية فى الذاكرة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين وصراعها المرير مع نظام الحكم فى مصر على مدار الستين عامًا الماضية. هذا البيان بلا شك يعبرعن أزمة كبيرة كانت منتظرة فى العلاقات بين الطرفين والتى بدت خلال الشهور الماضية، وهو بشكلٍ ما يؤرخ إلى فك التفاهم الضمنى الاضطرارى بين الطرفين اللذين يمثلان الآن القوتين السياسيتين الأكبر فى البلاد والذين لم يكن أمامهما بعد سقوط مبارك سوى خيارين: التفاهم أو الصدام، فكان الخيار الأول إلى حين. وبقدر ما يؤشر هذا البيان الأخير إلى تداعى التحالف الاضطرارى (التكتيكى) بين «الإخوان» و«العسكر»، فهو يؤشر إلى معالم تحالفٍ آخر بين هذا الأخير والقوى العلمانية سواء الليبرالية أو اليسارية، فقد بدا أن بعض رموز هذه القوى قد التقطت بحفاوة إشارة المجلس العسكرى التصعيدية ضد الإخوان. فقد رحب «ممدوح حمزة»، رئيس المجلس الوطنى المصرى، وأحد الرموز العلمانية الليبرالية والمحرِّك الميدانى لعددٍ من التظاهرات، رحب ببيان المجلس العسكرى الأخير واعتبره قد وضع الأمور فى نصابها الصحيح. كما دخل رئيس حزب التجمع «رفعت السعيد»، والمعروف بانتقاداته الشديدة والدائمة للجماعة على الخط، واعتبر أن «الإخوان» تطاولوا فى رأيه أكثر من اللازم على المجلس العسكرى فى بيانهم. فى كل الأحوال فإن الطرفين، الإخوان المسلمين والجيش، كانا يعلمان جيَّدًا أن لحظة الصدام قادمة، وفى هذا الشأن صرَّح «عصام العريان» نائب الرئيس حزب الحرية والعدالة أول هذا العام لجريدة ال«نيويورك تايمز»، بأن "الجماعة تؤجل صدامًا متوقعًا مع الجيش"، وذلك بعد تصريحات اللواء «مختار الملا» عضو المجلس العسكرى المثيرة للجدل. يبدو اليوم وكأن العلاقة بين «الإخوان» و«العسكر» تعود لطبيعتها! وذلك بعد وقتٍ مستقطعٍ بدأ غداة الإطاحة بمبارك حاول فيه المجلس العسكرى احتواء أكبر قوة سياسية شعبية معارضة، وحاولت فيه «الإخوان» استخدام تدابيرها فى التعايش مع من آلت إليه شئون الحكم فى مصر.