كنت أقلب في نصائح الناصحين للحكام فوجدت كتاب (سراج الملوك )لأبي بكر الطرطوشي فوجدت نصا ئح عجيبة تصنف الطريقة التي ينبغي أن يسير عليها الرئيس والمرؤوس ليرتاحا معا وبدأها بقوله تعالى{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام: 38) ثم شرح (فأثبت الله تعالى المماثلة بيننا وبين سائر البهائم، ومعلوم أنهم لا يماثلونا في خلقنا ولا أشكالنا ولا عقولنا، فتبقى المماثلة في الأخلاق، فلا أحد من الخلق إلا وفيه خلق من أخلاق البهائم،) أعتذر عن وصفه. ثم استطرد ( ولهذا تجد أخلاق الخلائق مختلفة، فإذا رأيت من الإنسان خلقاً خارجاً عن الاعتدال، فانظر ما يماثل ذلك الخلق من خلق سائر الحيوان، فألحقه به وعامله كما كنت تعامله، فحينئذ تستريح من منازعتهم ويستريحون منك وتدوم الصحبة فإذا رأيت الرجل الجاهل في خلائقه الغليظ في طباعه القوي في بدنه الذي لا يؤمن طغيانه وإفراطه، فألحقه بعالم النمور. والعرب تقول: أجهل من نمر وأنت إذا رأيت النمر بعدت عنه ولا تخاصمه ولا تشانئه فاسلك بالرجل كذلك. وإذا رأيت الرجل هجاماً على أعراض الناس وثلبهم فقد ماثل عالم الكلاب ، فعامله بما كنت تعامل به الكلب إذا نبحك! ألست تذهب في شأنك ولا تخاصمه ولا تسبه؟ فافعل بمن يهتضم عرضك مثل ذلك. (وإذا رأيت إنساناً قد جبل على الخلاف إن قلت لا قال نعم، وإن قلت نعم قال لا، فألحقه بعالم الحمير، فإن دأب الحمار إن أدنيته بعد وإن أبعدته قرب، وأنت تستمتع بالحمار ولا تسبه ولا تفارقه، فاستمتع أيضاً بهذا الإنسان ولا تسبه ولا تفارقه.) مع الاعتذار للوصف. (وإذا بليت بصحبة إنسان كذاب فاعلم أن الإنسان الكذاب كالميت في الحكم، لأنه لا يقبل له خبر كما لا خبر للميت، وكما لا تصحب الموتى لا يصحب الكذاب. وإذا رأيت إنساناً حقوداً لا ينسى الهفوات ويجازي بعد المدة على السقطات، فألحقه بعالم الجمال. والعرب تقول: فلان أحقد من جمل. وكما تجتنب قرب الجمل الحقود فاجتنب صحبة الرجل الحقود. فلعمر الله ما استقامت لي صحبة الناس وسكنت نفسي واستراحت من مكابدة أخلاقهم، إلا من حيث سرت معهم بهذا السير! ) ثم استطرد: في بيان الخصلة التي فيها غاية كمال السلطان وشفاء الصدور وراحة القلوب وطيب النفوس (اعلم أيها الملك أنك إن كملت فيك الخصال المحمودة والأخلاق المشكورة والسيرة المستقيمة، وخالفت نفسك وقهرت هواك ووضعت الأشياء مواضعها، ثم إن الرعية اهتضمت حقك وجهلت قدرك ولم توفك حظك، وبلغك منهم ما يسؤك ورأيت منهم ما لا يعجبك، فاعلم أنك لست بإله فلا تطمع أن يصفو لك منهم ما لا يصفو منهم للإله. وفصل الخطاب في هذا الباب أن تعلم أن الله خلق الخلائق أجمعين وأنعم عليهم بأنواع من النعم، فأكمل حواسهم وخلق فيهم الشهوات ثم أفاض عليهم نعمة فكملت لهم اللذات، وبعد هذا فما قدروا الله حق قدره وقالوا ما للخلق صانع كما حكاه الخالق عنهم فقال: نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وهو مع ذلك يحييهم ويميتهم ويصح أجسامهم وحواسهم ، فمعاصيهم إليه صاعدة وبركاته عليهم نازلة، كل يعمل على شاكلته وينفق مما عنده، وكل ذي حال أولى بها. وفي مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: إلهي أسألك أن لا يقال في ما ليس في! فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى ذلك شيء ما فعلته لنفسي فكيف أفعله لك؟ أما ما يلي فهي نصيحته عندما تضطرب الأمور ( أيها الملك إذا اضطربت عليك القواعد، ، واكفهر لك وجه ، فلا تغلبنك خصلتان اترك للناس دينهم ودنياهم ؛ فقد ترى أن المأمون قال: بقيت لأخي خصلة لو فعلها ملك موضع قدمي هاتين قيل له: وما هي؟ فقال: لو أن الأمين نادى في جميع بلاده أنه قد حط الخراجات والوظائف السلطانية وسائر الجبايات عشر سنين، ملك علي ولكن الله غالب على أمره. وكذلك يفعل بالأشراف من كل قبيلة والرؤساء المتبوعين من كل نمط،. فمن كمال السياسة والرياسة أن يبقى على كل ذي رياسة رياسته وعلى كل ذي عز عزه وعلى كل ذي منزلة منزلته، فحينئذ تكون لك الرؤساء أعواناً، ومن دانت له الفضلاء من كل قبيلة فأخلق به أن يدوم سلطانه) أما ماذكره عن العامة بلا قيادة فيقرر أنهم (والعامة والأتباع دون مقدميهم وساداتهم أجساد بلا رؤوس، وأشباح بلا أرواح وأرواح بلا قلوب. ولما قامت العامة على السلطان بقرطبة ولبسوا السلاح، كان شيخ جالس على كير يعالج صنعته فقال: ما بال الناس؟ قالوا: قامت العامة على السلطان. قال: ولهم رأس؟ قالوا: لا. قال: سق الكير يا صبي! فسارت مثلاً.) أخشى من مقولته الأخيرة