تتوالى موجات الاعتصام والإضراب دون توقف، لتشير إلى حالة الغضب وعدم الرضا الكامنة لدى مختلف فئات المجتمع، والتى يبدو منها وجود رغبة عامة لحدوث تغيير كبير فى مجمل أوضاع الحياة، كما يتأكد منها وجود مخاوف لدى فئات عريضة، من عدم تحقق التغيير المنشود.. ومن الواضح أيضًا، أن حدود التغيير المنشود، ليست واضحة لدى معظم الناس، ولكن تتملكهم رغبة عامة فى التغيير.. ويترافق مع هذه الحالة، مشكلة تردى الحياة المعيشية لدى قطاعات واسعة من المجتمع، مما يجعل حالة الغضب تستمر، مع الرغبة فى تحقيق تحسن معيشى واضح.. ولكن لا يبدو أن هناك حداً معينا يمكن عنده الشعور بتحسن أحوال المعيشية، خاصة مع حالة التردى العام لمستويات المعيشة لدى قطاعات واسعة.. ولهذا أصبحت حالة الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات، تمثل المشهد اليومى لما بعد إسقاط النظام، وهى مشهد يومى فى كل الدول التى دخلت فى الربيع العربى، ولا يختلف المشهد كثيرا من دولة إلى أخرى، بل تبدو الصورة وكأن حالة الاحتجاج الواسع، هى من توابع زلزال إسقاط النظام الحاكم. ومع حالة الاحتجاج، يبدو واضحًا أن مرحلة الشعور بالمسئولية تجاه المستقبل، لم تبدأ بعد.. فمعظم قطاعات المجتمع تحتج فى وجه الدولة، ولكنها لم تدرك بعد أنها جزء من صناعة المستقبل، وأن عليها مسئوليات وواجبات، كما أن لها حقوقًا.. فمازالت الاحتجاجات توجه نحو الدولة أو النظام أو الحاكم، وكأن هناك طرفا واحدا عليه كل المسئولية، مما يعنى ضمنًا أن المجتمعات تحمل الدولة مسئولية ما حدث فى عهود القهر والظلم، وأن سقوط النظام الحاكم، لم يعف الدولة من مسئوليتها.. وتحولت الكثير من الاحتجاجات إلى تمرد على نخبة الدولة، باعتبارها تمثل الحاكم البديل، بعد سقوط الطبقة الحاكمة.. فأصبحت نخبة الدولة هى المتهم الأول، والتى توجه لها كل مظاهر الاحتجاج.. ولم تصل الجماهير بعد إلى المرحلة التى تدرك فيها أن عليها دورًا تقوم به. فالعاملون بأجهزة الدولة يحتجون على نخبة الدولة وقيادتها، وبعض فئات المجتمع تحتج على جهاز الدولة والعاملين به بسبب تردى أداء الدولة، وكأن كل الفئات تحتج فى مواجهة الفئات الأخرى، وتحاول أن تحمل المسئولية كاملة على طرف آخر، دون أن تدرك أنها فى الغالب تتحمل جزءًا من المسئولية. وتمثل مرحلة الاحتجاج مرحلة تبدو حتمية فى مراحل التغيير عقب الثورات العربية، فهى فى الواقع مرحلة تفجير طاقة الغضب الكامنة، والتى ظلت لعقود قيد القهر والضغط والحصار، ولهذا فإن طاقة الغضب تمثل فى حد ذاتها تفريغ لطاقات الاحتجاج والثورة التى تملكت الجماهير فى دول الربيع العربى.. ولكن مسيرة التغيير الحقيقية لن تبدأ، إلا بتحول الجزء الأكبر من مخزون الغضب إلى طاقة عمل وإبداع.. وهى عملية تحتاج لوقت، حتى يشعر المجتمع أنه مسئول ومشارك فى صنع المستقبل.