انتهينا بالمقال السابق إلى أن فساد التعليم جعلنا (أمة في خطر).. ويكفي أن العرب فقدوا الثقة في خريجينا وباتوا يفضلون الهنود والباكستانيين والسودانيين على المصريين. وهناك ملاحظة خطيرة يشعر بها الجيل القديم فقط وهي تدهور مستوى الكتابة والقراءة بالعربية؛ إذ لا يخلو أي منشور الآن من أخطاء إملائية مخجلة تدل على أن خريجينا في هذا الزمن الرديء لم يتعلموا شيئا ولم يحضروا دروس المطالعة.. ووصلت الكارثة إلى المدارس نفسها في لافتاتها وإعلاناتها، بل إلى الأزهر والأوقاف!. هذا عن الكتابة.. أما عن القراءة (ولا أقول الخطابة!) فالفضائح مشهورة ويتداولها الناس بالسخرية من أخطاء السياسيين والقضاة، خصوصا رئيس مجلس النواب!. وبداية فلا مفر من إعادة الانضباط إلى المدارس والجامعات بالإجراءات الإدارية الحازمة التي كانت مطبقة وناجحة في الماضي القريب.. ويجب ألا يكون هناك مكان لمسئول يقصر في أداء هذا الواجب. كما ينبغي أن تتضافر كل الجهود والمؤسسات لإزالة تشوه مفهوم التعليم، وإعادة القناعة بأن من ينجح بالغش لن يستطيع مواصلة تعليمه.. وهذا لن يتأتى إلا بإعادة الانضباط والاحترام إلى الجامعات أيضا، ويساعد في ذلك ألا تكون الشهادة بمفردها هي المؤهل الوحيد للعمل. فمع كثرت الجامعات الإقليمية والخاصة يصعب تصور أنها كلها تعد خريجيها بالمستوى العالمي المطلوب، أو حتى بمستوى متقارب داخل مصر.. وغياب جامعاتنا عن الترتيب العالمي خير دليل. لابد من وجود مرجعية تشير إلى مستوى الجامعة ومدى جديتها، من طرف محايد (محلي أو خارجي) لاختبار الخريجين ومراجعة الحد الأدنى من المعرفة اللازمة لكل تخصص، واعتماد الشهادات بناء على ذلك. ليس معقولا أن يتساوى خريج جامعة خاصة ربما نجح بماله، أو جامعة حديثة العهد لا أحد يدري كيف تدار امتحاناتها، مع خريج جامعة كبيرة لا زالت تتمتع بالجدية. لقد ازدهرت الجامعات والمعاهد الخاصة في ضل الفساد بأسوأ حقبة مرت بها مصر، ونعتقد أن إفساد التعليم كان مقصودا لدعم هذه الجامعات، مثل ما كان يحدث من تعمد تقليص جودة رغيف الخبز المدعوم لتنفير الناس منه ودفعهم إلى غير المدعوم. والجامعات الخاصة تقبل صراحة ضعاف التحصيل بما لا يقل عن 10% بالثانوية العامة، مقارنة بمثيلاتها الحكومية.. وكأن لديهم عصا سحرية لتبديل حال الطالب الذي ربما لا يجيد القراءة والكتابة!. ومعلوم أن الرسوب (ممنوع) بهذه الجامعات بحجة أن الآباء دفعوا الكثير ويصعب تحميلهم هذا المال مرتين أو أكثر!!. لا مفر إذاً من تدخل الدولة ووضع ضوابط صارمة تضمن الجودة وتخريج من نطمئن إلى تحملهم مسئولية العمل الجاد الذي يبنى وطنا ويصنع نهضة. لو نجحت الدولة في منع الغش (بأنواعه) بالجامعات كافة، وفرض الجودة على الجامعات الخاصة.. فسوف تعود إلى التعليم العام الهيبة والجدية المفتقدة؛ حين يدرك الناس أن مجرد عبور الامتحان دون تعلم لن يفيد. لابد من منع فساد الجامعات: إهمال المحاضرات لصالح الدروس الخصوصية، الاتجار في الكتب (الرديئة)، بيع الامتحانات من خلال (الشيت)، التهاون في منع الغش، ..الخ؛ مطلوب إجراءات رادعة تصل إلى الفصل.. وعلى الطلاب أنفسهم تحمل المسئولية والإبلاغ عن مافيا الدروس الخصوصية أو نشر أسمائهم على مواقع التواصل. أما التعليم العام.. فقد صرح وزير التربية والتعليم (مثل سابقيه!) بأنه سوف يعيد الطالب والمعلم إلى المدرسة، وهذا هو المطلوب، ولكن الواقع يقول أن كلام الوزراء كان للاستهلاك المحلي والإعلامي!. لقد سبق المعلمون الوزير وبدأوا الدروس الخصوصية مبكرا وقبل بدء الدراسة بشهرين، وأولياء الأمور يتخوفون من عدم القدرة على ضبط المدارس ويخشون غضب مافيا الدروس الخصوصية الذين لا تستطيع إلحاق الأولاد بهم إلا بالحجز المبكر، وأحيانا بالواسطة!. والسبيل الوحيد لعودة المدرسة إلى وضعها هو عودة العملية التعليمية إلى مسارها القديم الذي كان قبل عهد المخلوع الذي حول التعليم إلى عملية تلقين وحفظ, وروج الدروس الخصوصية, ونقل العملية التعليمية إلى البيوت والمكاتب الخاصة، وتكفي معركة أو إرهاب الثانوية العامة لإثبات فشل هذا النظام. وعلي الرغم من أن مستوى التعليم واضح من مستوى الطلاب الملتحقين بالجامعة ومستوى الخريجين الذي أخذ في التدني من سنة لأخرى.. فإن قيادات الوزارة يزعمون أنهم طوروا التعليم بدليل حصول الطلاب على الدرجات النهائية في الثانوية العامة!.. وهذه سياسة مقصودة، بتسهيل الامتحانات ليحصل الأوائل- الذين كانوا يحصلون بالكاد علي 80- 90 بالمئة أيام التعليم الحقيقي- يحصلون على أكثر من مئة في المئة. والعجيب أن الوزارة أغمضت العين عن الإرهاب الإعلامي وضغط الرأي العام على واضعي الأسئلة.. ولا ندري ما دخل الصحف والفضائيات وأولياء الأمور بالامتحانات التي يجب أن تكون تقييمًا أمينًا ونزيهًا لمستوى الطلاب?!. إن سياسة (امتحان بمستوى الطالب المتوسط) هي غش مقنن، لأن هذا يخلط الحابل بالنابل ويعرقل اكتشاف المواهب وتمييز الطالب المجتهد. وهي سر تفاقم الدروس الخصوصية وانتشار كتب (الملخصات) لأن المطلوب أصبح مجرد الحفظ والتدريب على إجابة الأسئلة وليس التعلم والفهم. إن حصول أعداد كبيرة من الطلاب على 100% دليل واضح على انهيار التعليم، ولقد جربنا هؤلاء المتفوقون في مسابقات أولمبياد الكيمياء وأثبتوا للأسف أنهم دون المستوى، ولا أريد أن أقول (أميون) لأنه لا ذنب لهم. والعجيب أن الوزارة أصبح لديها (عقدة ال 100%) ولا تعترف إلا بالدرجات النهائية!.. إذ كانت تشترط للالتحاق بمدرسة زويل مثلا حصول طلاب الإعدادية على الدرجات النهائية بالمواد العلمية، وتركت أوائل المدارس (بالمجموع الكلي) الذين فقدوا نصف درجة بهذه المواد؛ لقد صارت عقدة بالفعل!. إذا كان الوزير يريد أن يعيد التعليم إلى المدارس فلا بديل عن عودة الامتحانات إلى طبيعتها وفك عقدة الدرجات النهائية، بالتخلي عن امتحان (مستوى الطالب المتوسط). لابد أن يفهم أولياء الأمور أن الامتحانات لن تكون في مستوى الطالب (الخائب) ولكنها ستقيس مستوى التحصيل لكي يتجرأوا ويعيدوا أولادهم إلى المدارس. لابد أيضا من منع الكتب الخارجية (التي تسيطر عليها قيادات الوزارة ويعترفون أنها مجرد "ملخصات" مبتذلة)، مع تطوير كتاب الوزارة الذي تنفق عليه المليارات ويوضع بالقمامة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.