لاشك أنه من دواعي الغرابة والعجب أن تعقد ندوة في مجلس مصر الأعلى للثقافة تدعو إلي محو الهوية الدينية لتاريخ مصر عبر العصور في محاولة للوي ذراع التاريخ لصالح ما يسمونه بالهوية القومية . لقد ارتبطت هوية مصر القومية بالهوية الدينية عبر كل مراحل التاريخ المقروء ومنذ أن جعل حاكم مصر الفرعون نفسه إلها متوائما مع منظور ذلك العصر تواؤما خلاقا خلف لنا من عجائب الدنيا أهرامات وتماثيل مازالت دلالاتها شاهدة علي هذا البعد حتى الآن . فالأهرامات لم تكن دلالة علي نمو فن العمارة وفخامتها فقط بل كانت في الحقيقة تعبيرا عن الهوية الدينية لهذا العصر ، فالهرم كان مقبرة للفرعون تليق بحسابه علي أعماله حين يعود للحياة وفق معتقده ثم كانت إبداعات المصريين في فن التحنيط تعبيرا عن رؤى دينية متأصلة في الفراعنة حيث يحافظ علي أن يظل جسم الفرعون سليما حين تعود له الحياة . وجاء التعبير القرآني ليصف عدم تواؤم الحكام الفراعنة مع شعب مصر وليكون هو السبب الرئيسي في ضعفهم " فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين " فأرجع الضعف إلي استخفاف الحاكم بالشعب وقبول الشعب لهذا الاستخفاف فاستحقوا إلي جانب الضعف أن يوصفوا جميعا ، حاكما ومحكوما ، بالفاسقين . وحتى فترات الاحتلال التي وقعت علي مصر فقد صبغها المحتل بالصبغة الدينية كدور الإسكندر الأكبر الذي كان مقدمة لحكم البطالمة . وتلا ذلك دور الغزو الروماني الذي طبع باسم الإمبراطورية الرومانية المقدسة حتى جاءت المسيحية لتفرض أثر المحكوم علي الحاكم وتأخذ أوربا المسيحية من بلادنا. وحين دخل المسلمون مصر ارتبط أهلها بهذا الدين الجديد بعد أن استوعبوه ، ودمجوا عن طواعية رصيدهم الحضاري في منهج الدين الجديد حتي أصبحوا من أقوي المدافعين عنه والمساهمين في نشره . وارتبط تاريخ المصريين بالدولة الإسلامية ارتباطا وثيقا فأسهموا في نشر الدعوة الإسلامية في شمال إفريقيا والأندلس ، واندمجوا في صفوف المدافعين عن هذه الدولة ضد المغول من الشرق والصليبيين من الغرب . وظل هذا البعد في الارتباط بين الهوية القومية والهوية الدينية هو المميز لتاريخ مصر ، ومن هذا الارتباط كان تفسير فوز قطز وبيبرس علي المغول في عين جالوت وهم وأغلب جنودهم لم يكونوا من أهل مصر ، وفوز صلاح الدين الأيوبي علي الصليبيين في حطين وهو وأغلب جنده ليسوا من أهل مصر ، فهل كان هذا من التاريخ القومي لمصر أم أن مصر كانت جزءا من نسيج الأمة الإسلامية . وخلال العصر العثماني نطرح سؤالا علي أصحاب المنظور القومي كيف يفسرون عدم قيام ثورات في مصر ضد الوجود العثماني منذ دخولهم وحتي مجئ الحملة الفرنسية ، أي علي طول ثلاثة قرون ، في الوقت الذي قاموا فيه بثلاث ثورات كبري ضد الفرنسيين في السنوات الثلاث التي أمضتها الحملة في مصر وأفشلت بها خطة نابليون في الشرق ؟ وبماذا يفسرون إعلان نابليون عن اعتناقه للإسلام واحترامه للقرآن الكريم كي يتودد لشعب مصر ؟ ويفسرون اعتناق خليفة نابليون في مصر( مينو ) للإسلام وزواجه من مصرية مسلمة وتغيير اسمه إلي عبد الله ؟ هل كان هذا من التاريخ القومي لمصر بعيدا عن هويتها الإسلامية ؟. وعلي الرغم من مساعي محمد علي وأبنائه لفرض وسائل وأطر التحديث علي النظام في مصر إلا أن البعد الديني ظل محورا أساسيا يحكم أبعاد هذه الوسائل والأطر . وكانت ثورة عرابي ببعدها الديني والوطني مثال واضح علي اندماج الهويتين رغم جهود التحديث التي حاولت تبديل هذه الهوية . وشكل البعد الديني المحور الرئيسي في قيام الحركة الحزبية في مطلع القرن العشرين ، فحين اجتمع الشعب حول مصطفي كامل كان بسبب إعلانه عن اندماج الهوية الدينية مع البعد الوطني وكان هذا أساسا لدعم حزبه الوطني ، ثم كان ذلك مدعاة لتبني سلطات الاحتلال لحزب يجمع أتباع التيار الليبرالي وهو حزب الأمة وجاءت ثورة 1919 م لتكون عنوانا لارتباط الهوية الدينية الإسلامية التي عبرت عنها جموع الثائرين بالهوية الوطنية التي مثلتها قيادات الثوار من كل طوائف الشعب . كما كان البعد الديني ومازال وراء انحسار المؤيدين للكيانات اليسارية والشيوعية التي قامت بعد الثورة علي الرغم من احتواء برامجها علي جوانب تحقق قدرا أكبر من العدل الاجتماعي يفوق طرح أصحاب المصالح الذين سطو علي سطح الثورة والحياة السياسية التالية لها . وظل البعد الديني يشكل محورا أساسيا للمصريين حكاما ومحكومين رغم تغير أيديولوجياتهم ، فاستند العسكريون للتيار الإسلامي في بداية وصولهم للسلطة 1952 كي يتخذوا منه ظهيرا شعبيا ، وحين انقلبوا عليه سعوا للتقرب من تيار إسلامي شعبي وهو الطرق الصوفية فعين المشير عامر نفسه مشرفا عاما علي المجلس الصوفي الأعلى ، واعتلي قادة النظام منابر المساجد في أزماتهم السياسية إدراكا لأثر البعد الديني علي شعب مصر بشكل يفوق كافة الأيديولوجيات التي تبنوها. ولعل ما تحقق من نصر عسكري في حرب رمضان ( أكتوبر 1973 م ) حين استعاض السادات بالبعد الديني عن العقيدة القتالية الاشتراكية هو تعبير تاريخي علي اندماج البعد الديني في الهوية الوطنية المصرية . ولو أن الأمر في صياغة التاريخ علي هوي بعض كتبته فبماذا يفسرون اختيار الشعب لممثلي التيار الإسلامي في الانتخابات الأخيرة رغم كل مابذل لتغيير ذلك ؟ ولماذا لم يحقق أتباع التيار الليبرالي نجاحا مماثلا إلا بوسائل يصعب قبولها ورغم مرور قرابة القرنين من الزمان علي تبني النظام السياسي مساندة هذا التيار ؟ أليست الإجابة التي لايحار فيها أحد هي تمسك المصريين بهويتهم الدينية الإسلامية والمسيحية علي طول ساحة التاريخ ؟ . إن التاريخ برغم عدم توفر الحيدة المطلقة في صياغته لايمكن أن يكون طوعا في عمومه لرغبة كل من يريد إخضاعه ، فالحقائق الثابتة والمحاور الأساسية لحركة الشعوب يستحيل إغفالها ، وبالتالي فمصر لها دورها الوطني البارز ولكن داخل منظومة الحضارة الإسلامية أراد البعض أم لم يرد ، فهل لاتدعو هذه الحقيقة إلي الموضوعية التي يضيع خارجها أو بعيدا عنها كل جهد لمن يريدون إغفالها ؟ • أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر