كل التفاصيل بشأن قرض صندوق النقد الدولي ونتائجه تصب في خانة واحدة، وهى أنه إذا كانت الفترة الحالية قاسية، فإن الفترة المقبلة ستكون شديدة القسوة، ومن يسعى لتجميل الصورة، فهو يغالط ويواصل عملية الخداع، عندما يُقال إنه لا بد من رفع كفاءة أسواق النقد الأجنبي ليكون سعر الصرف أكثر مرونة، فالمعنى أن قيمة الجنية ستزداد تآكلا، والدولار سيواصل ارتفاعه، والنتيجة موجات ارتفاعات سعرية جديدة تشمل كل شيء، والمرونة - وهو اسم الدلع لتخفيض الجنيه - ستتم على مراحل وصولا إلى التعويم الكامل، موجات الغلاء لن تتوقف، وأكثر المتضررين من تعويم العملة المحلية، ومن التخفيض التدريجي على دعم الطاقة، ومن ضريبة القيمة المضافة، وهى ضمن شروط القرض، هى الشرائح الفقيرة والدنيا والوسطى، وهى تمثل غالبية الشعب المصري. عندما يجري الحديث عن شبكات الحماية الاجتماعية لمواجهة تداعيات ما يُسمى بالإصلاح الاقتصادي فإنه حديث يُراد به تصوير الأمر كما لو كانت هناك شبكات حماية وضمان حقيقية تمثل حائط صد منيع للطبقات المتضررة في مواجهة مصاعب الحياة، الدعم الذي يجري الحديث عنه صار رمزيا، لا ينال الفرد منه إلا أقل القليل، والدعم بات مجرد يافطة، ونوع من المن والمعايرة، وهو غير فاعل، والسلطة تؤّمن فئات بعينها بزيادة دخولها باستمرار لتوفر لها حماية نقدية مباشرة وسخية، بجانب الخدمات الراقية التي تتمتع بها مجانا أو برسوم رمزية، بينما تضن على فئات عمل أخرى وهى الأكثر استحقاقا الرعاية، وتترك الفئات التي تعمل في القطاع الخاص مرهونة بقدراته على تحسين أوضاعها، وتتجاهل الفئات غير المنظمة في عمل رسمي أو خاص، ولذلك تغالي في أجورها وتتفنن في زيادة دخولها من جيوب بقية المواطنين. الحالة في الشارع اليوم مثل الغابة، لا شاغل لأحد إلا تحصيل المال لسد الاحتياجات وتأمين ما هو قادم، هناك حالة قلق عام، الكل متخوف من يومه قبل غده، أيادي الكل في جيوب الكل، الانفلات ليس في تكلفة الطعام والشراب فقط، فهذه يمكن مواجهتها بالتقشف، وإعادة ترتيب الأولويات، ولو على حساب عافية الأشخاص، لكنه مثلا في تكاليف التعليم خارج المدارس التي أصبحت مجرد مبان فقط، وفي الصحة حيث الخدمات الحكومية منهارة، وفي الصرف الصحي حيث الكثير من القرى والمناطق بلا شبكات صرف مما يرتب أعباء إضافية على المواطنين، وفي مياه الشرب غير المأمونة، ولن اتحدث عمن يريد شراء وحدة سكنية، أو بناء بيت يأويه، وإذا كان ذلك عسيرا على من لديه عمل، فكيف يكون الحال لشاب متخرج باحث عن عمل، ويواجه بطالة بنسب قياسية. والبطالة هى جوهر الأزمة، غياب فرص العمل يدفع للإحباط، ويقتل الأمل، وقد ينتج عنه ما لا يُحمد عقباه، ووجود فرص عمل يمثل طاقة أمل وضوء في نهاية نفق شبه مظلم، ومع الأوضاع الحالية من تعطل منظومة العمل والانتاج، ومعاناة القطاع الخاص، وغياب الاستثمارات، وذهاب الفرص المتاحة إلى فئات بعينها، فهل تستغرب السلطة لماذا الشباب بعيد عنها، ولماذا يقاطع انتخاباتها؟. أين هى شبكة الأمان الاجتماعي التي تحمي المواطنين الأقل دخلا والأكثر فقرا في تلك الظروف المعيشية والحياتية غير المسبوقة؟، لا أحد يشعر بأحد، فضيلة التعاطف والتراحم تتراجع، قسوة الحياة لا تجعل أحدا يحن على أحد، من يستقل سيارة لا يعنيه من يمشي على قدميه، من يتناول وجبة لا يهتم بالجائع، من يشتري شيئا لا يفكر فيمن جيوبه خاوية، من يديرون البلد دون تفاعل حقيقي مع أوجاع الناس لن يعنيهم سقوط أعداد متزايدة تحت خط الفقر. تخفيض عجز الموازنة والدين الحكومي كما يشترط الصندوق لن يتم إلا على حساب الفئات المرهقة على الدوام التي تسدد فواتير الأزمات من معيشتها، ومن متع الحياة المحرومة منها، ومن عدم قدرتها على تنمية أوضاعها، الفئات العليا لديها ما يقيها، وهى تحصل على ما تريد، دخول وفرص عمل وخدمات. يتخفف الصندوق أحيانا في شأن الأوضاع الاجتماعية وبرامج الحماية للفقراء، يترك للحكومات مساحات للتحرك في هذه الدائرة الأصعب في كل برامج الإصلاح وفي كل اتفاقاته مع من يريد مشورته وأمواله، لكنه في نفس الوقت يعلم أن حماية الفقراء والطبقات التي تتأثر بإجراءاته شبه مستحيل، فالأجندة الإصلاحية نفسها كلها علاج بطعم العلقم للمريض. الصندوق ليس سيد العاطفي، له مراجعات محددة، وفي مواعيد دقيقة للبرنامج المتفق عليه، وقد يتوقف عن مواصلته إذا لم يجد إصلاحا حقيقيا والتزاما كاملا بالاتفاق، وتلك تكون رسالة بانهيار اقتصادي عندما ينسحب منها، وفي الحالة المصرية فإن الصندوق لا يريد التلكؤ، بل البدء في تنفيذ بنود الاتفاق فور اعتماده رسميا ونهائيا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.