تشهد مصر منذ أكثر من قرن حركة يطلق عليها حركة التنوير وقد أهتم فريق فيها بلدعاء العلمانية بمفهوم معين ومهاجمة كل ما يتعلق بالدين بزعم أن ذلك هو التنوير. وقد حدثت معارك واسعة على المستوى الفكرى خاضها رجال عظام عندما كانت مصر علما بين الأمم ولذلك كان الحوار بين هؤلاء الأعلام تحفة ومائدة ثرية للثقافة والتنوير وقد راجع جيلى أعداد مجلة الرسالة وصحف العشرينات والثلاثينات التى شهدت حوارا راقيا بين كل المعسكرات الفكرية التى كانت تقرأ فى أصول الفكر وكانت تسنتد إلى أرضية صلبة فى مناخ يشجع على اكتساب العلم والنهل من مصادر الثقافة ولم يختصر أحد الطريق ويغلق باب الحوار كما يحدث لقطاع الطرق فى هذا الزمان الذى نعيشه فيسارع إلى تكفير الآخر دينيا أو سياسياً، والذى يسارع فى التكفير هو شخص خالى الوفاض بادى الرأى ضحل الثقافة عييى فى حجته لجوج فى عداوته وشططه. فعندما خرج علينا الدكتور طه حسين بكتابه فى الشعر الجاهلى عام 1926 كان رد الفعل فى المجتمع يتسم برحابة الصدر وأحيل فى هذا إلى مقدمة العلامة محمود شاكر الذى تعرض فيها لهذا الموضوع بالتفصيل فى سلاسة فكرية وهو يقدم للطبعة الأولى عام 1946 لكتاب مالك بن نبى حول الظاهرة القرآنية مما يعرفه المتخصصون فى هذا الباب الذين يقدرون الفكر الراقى واللغة الجذلة التى تحمل هذا الفكر برشاقة ورصانة إلى المتلقى فنشأت أجيال فى العالم العربى على هذه الثقافة الرفيعة التى تنبعث من مصر الحقيقية. وفى الأسبوع الأخير من يوليو 2016 جدد الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق ومن رواد حركة التنوير بمفهومهم دعوته "التنويرية" بأن يتم حذف آيات الجهاد فى القرآن الكريم من المقررات الدراسية لطلبة بعض الصفوف فى مصر أسوة بما فعل المغرب منذ أيام وقد تصدى له عدد من شيوخ الأزهر بينما أيده عدد آخر ببعض الشروح والتفسيرات ولكن لم يقم حوار فكرى علمى حول هذه القضايا التى يجب فى نظرى أن تناقش بصراحة مطلقة لأننى أعتقد أن مصر ليس فيها لبراليون ولا علمانيون وانما فيها من يزعمون أنهم كذلك ربما للادعاء بتميزهم وربما لتزكية أنفسهم عند بعض الجهات والدوائر الغربية ولكن شتان بين العلمانية واللبرالية فى أوروبا وبينهما فى مصر والعالم العربى وهما مفهومان مرتبطان ارتباطا وثيقا بالحرية وخصوصا حرية الاعتقاد. ولا آظن أن المجال يسمح الآن بالمقارنة بين حرية الاعتقاد فى اللبرالية الغربية ناهيك عن شبيهتها المزيفة فى مصر وبين حرية الاعتقاد فى الاسلام كما أن السياق لا يسمح بتفصيل ما ارتبط بهذه القضايا من دجل وجهل وزيف ولكن يكفى القول بأن الله خالق الإنسان خيره بين الكفر والإيمان وأودع نفسه الإيمان والفجور فى وقت واحد على سبيل الالهام وأعطى الإنسان العقل حتى يختار بين الكفر والإيمان كما لم يجعل وساطة بين الإنسان والخالق وأكد الله سبحانه على أن الإنسان الذى يعلم الله ما توسوس به نفسه يستطيع أن يلتقى بالله فى دنياه فى أى وقت فلا وساطة بين الإنسان والخالق بل أن الرسل والأنبياء لم تزد رسالتهم على البلاغ وعلى الله من ناحية أخرى الهداية والحساب. فى هذه الظروف الملتبسة التى مرت بها مصر طوال أكثر من قرن من الزمان تاهت هذه الحقائق وظهر وسطاء سواء من بعض المشايخ والطرق أو من بعض الجماعات الدينية التى خلطت بين الدعوة وبين الهداية فالدعوة جزء من الدين وأما الهداية فقرار من الله سبحانه لمن شاء من عباده. وحتى الكفر والالحاد قرار شخصى مادام الإنسان سيحاسب على عمله ولكن الكفر والالحاد لا يمكن التوصل إليها عن طريق العقل كما أن الله يستر من يصاب بهذه المصيبة فجعل القلب وعاء الإيمان والكفر لا يطلع عليه أحد وهى علاقة رأسية خالصة بين الله وخلقه فلايجوز أن يخرج الملحد إلى مجتمع مؤمن ويطالب بحرية العقيدة لأن حرية العقيدة فى هذه الحالة ليست حرية الكفر مع المجتمع ونشره وانما الكفر قرار شخصى مع الله وقد قبل الله أن يكفر به عبده فلادخل لأحد فى هذه المساحة الحساسة كما أن تعطيل العقل لأى سبب هو عقبة بين الإنسان وبين ادراك الله ولذلك لا يجوز لأحد فى أى حوار نرى الوقت قد حان لفتحه أن يدعى أن التقدم والعلمانية واللبرالية هى الهجوم على الدين والاساءة إلى المتدينين وانتهاك حرية الاخرين فى اعتناق الإيمان. فإذا منح الله الإنسان الحق فى الكفر فقد منحه أيضاً الحق فى الإيمان وهذا قرار شخصى للإنسان فى علاقته بالله وأما علاقة الإنسان بالمجتمع فإن المجتمع هو الذى يحدد له ضوابط التعبير عن هذا المعتقد ولذلك نصت جميع دساتير العالم على أن حرية الاعتقاد مطلقة ولكن حرية ممارسة هذا الاعتقاد وممارسة العبادة أى طقوس الدين قرار المجتمع لأنها تخرج عن دائرة الخصوصية فى علاقة الإنسان بالخالق وتخرج إلى العمومية وهى المجتمع.
واقتراح الدكتور جابر عصفور بحذف آيات الجهاد من المقررات الدراسية يجب أن يفهم على أساس أن الاطفال فى المرحلة الاعدادية يدرسون ما يقرره خبراء التعليم عليهم فلا أظن أنهم يفهمون شيئا من هذه الآيات كما أن أفهامهم لا ترقى إلى مستوى شرح الظروف التاريخية وأسباب النزول وغيرها من علوم القرآن التى يتم استحضارها عادة لفهم هذه الآيات ولكنى أذكر الدكتور عصفور دون الدخول فى تفاصيل مستعد لها فى كل وقت أن آيات الجهاد جميعا بل آيات القرآن وسوره تحظر العدوان وتقدس النفس البشرية تقديسا لا أظن أنه يخفى على مثله كما أنها تقدس حق المقاومة ضد كل عدوان خاصة العدوان على الحرية بالضوابط التى شرحناها.
ثم أن الدكتور عصفور يفترض أن آيات الجهاد هى التى أدت إلى الإرهاب فما هو الارهاب عنده؟ ولكنى أوكد أن الذين يقرأون هذه الآيات ويحرفونها هم زعماء العصابات الذين يتاجرون بالدين وليس الأطفال الذين يجندون فى هذه المهام الإجرامية وهم يظنون أنهم شهداء. فالاولى أن يهتم خبراء التعليم بتقرير واختيار الآيات التى تتناسب مع عقول التلاميذ وإذا قدموا آيات الجهاد فلابد أن يقترن ذلك بشروح كافية لها. كما أن الإرهاب سببه الأساسى الظروف الاقتصادية والاجتماعية وامتهان القانون وغياب العدالة واستشراء الفساد والاستبداد حيث يتوقع من هؤلاء اللبراليين أن يتصدوا له خاصة وأن دعوتهم فسرت على أنها تؤدى إلى حذف آيات الجهاد من القرآن الكريم وهو أول من يعلم أن هذا مستحيل لأن الله تعهد بحفظ هذا الكتاب فى مواجهة كل من أراد به شرا أو تحرش به من قريب أو بعيد.
وأرجو أن يفهم الجميع أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى دعوة نبيلة لا يمكن أن تفسر على أنها تجرؤ على هذا الدين.