ومازالت دولة تلاوة القرآن الكريم فى مصر تفرز الأعلام النوابغ فى هذا المجال الذى تميزت فيه منذ أن شرفت بالإسلام ديناً ومنهجاً فى الحياة، ففى السنوات الأولى قدمت مصر أحد رواة القراءات السبع هو الإمام "ورش" صاحب (رواية ورش عن نافع)، ومازالت تسهم فى هذا المجال وبالرجوع إلى كنب طبقات القراء للذهبى، وابن الجزرى، والسيوطى يجدها زاخرة بالحديث عن القراء المصريين، وفى العقود الأخيرة قدمت فى زمن متقارب عشرات من القمم مثل: الشيخ محمد رفعت، والشيخ الشعشاعى الأب والابن، ومحمد الصيفى، ومحمد عبدالحكم، وعلى محمود، والنقشبندى، وصديق المنشاوى وأولاده، وغيرهم .. وسوف نتحدث اليوم عن الشيخ أبوالعينين شعيشع وارث هؤلاء العباقرة فى حلاوة الصوت وجودة الأداء وامتلاكه لأدواته، نتذكره اليوم فى ذكرى رحيله الأولى، لنعتبر بها ونستفيد من استمرار دولة التلاوة التى مازالت مزدهرة، فالبرغم من أنه ولد عام 1922، ولكنه كان يعتبر تاريخ مولده الحقيقى مع تلاوة القرآن الكريم، فوالده كان يطمح أن يرى ولده ضابطاً، لكن الطفل الصغير أراد له ربه شأنه آخر، فهو قد ادخره لحمل أمانة تبليغ كتابه للناس، فبدأ شيخنا يضع أقدامه على أول الطريق، وكان هناك عمالقة، فطالت عنقه حتى قاربهم، وعاش مع القرآن الكريم رحلة امتدت أكثر من سبعين عاماً، طاف الدنيا يرتل آيات الله ، فكان خير سفير للقرآن، فهى رحلة ليست للمكاسب الدنيوية، ولكنها تذليل لنفسه فى خدمة كتاب الله الذى تعهد بحفظه عن طريق جنوده المستمرون فى الحفاظ عليه إلى أن تقوم الساعة . ولد أبو العينين شعيشع في مدينة بيلا بمحافظة كفرالشيخ شمال مصر في 22 أغسطس 1922م، وهو الابن الثاني عشر لأبيه، بدأ كأى طفل فى الريف بدخوله المدرسة الإبتدائية حتى الصف الرابع، ثم تحول إلى المدرسة الإلزامية، وعندما بلغ أثنا عشر عاما التحق بكتاب القرية ليحفظ القرآن فى سنتين ويجوده ، فى ذلك الوقت سمعه شيخه يوسف شتا، وهو يتلو القرآن مع أقرانه بالكتاب، فاستوقفه عذوبة صوته وجودة تلاوته، فتنبأ له بمستقبل باهر، وفى المدرسة كانوا ينتدبونه لتلاوة القرآن فى المناسبات، وتنبه الناس إلى وجوده على ساحة التلاوة ، وذاع صيه فى بلده كفر الشيخ وفى البلاد المجاورة، وتاتى اللحظة الحاسمة فى حياته من خلال حفل أقيم بمدينة المنصورة سنة 1936، لإحياء ذكرى الشهداء الذين سقطوا فى تلك الفترة ، وفى ساحة كبيرة بمدرسة الصنايع دخل إلى مكان الإحتفال ببذلة وطربوش، وشاهد جمعاً غفيراً من الناس، فدهش! ولكن الخوف لم يتملكه، فكيف يهاب الناس وهو يحمل القرآن بين جنبيه، فجلس بجوار المنصة، ولما قرأ الحق تبارك وتعالى:{ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}، حتى شعر بالاستحسان فى عيون الناس، وانقلب الاحتفال إلى مهرجان لنصف ساعة، وحملوه على الأعناق، وآل على نفسه منذ هذا اليوم أن ينتهج القرآن لكى يكون قارئاً . وفى سنة 1939 دعى لمأتم الشيخ محمد الخضرى بك أستاذ التاريخ بمدرسة القضاء الشرعى ومن كبار علماء الأزهر، وكان يمت له بصلة قرابة، وكان حاضراً الحفل الشاعر الشيخ عبدالله العفيفى وكان إمام الملك، فأشار عليه أن يذهب لمقابلة سعيد لطفى باشا مدير الإذاعة، وقُبل بها وكان أصغر قارىء بالإذاعة حيث كان عمره 17 عاماً ، وكان وقتئذ متأثراً بالشيخ محمد رفعت وكان على علاقة وطيدة به، وقد استعانت به الإذاعة لإصلاح الأجزاء التالفة من تسجيلات الشيخ رفعت، فقد كان من أبرع من استطاع تقليد الشيخ الكبير محمد رفعت، وذاع شأنه واستعانت به الخاصة الملكية لإحياء ليالى رمضان بقصر عابدين . اتخذ الشيخ أبو العينين لنفسه أسلوباً خاصاً فريدا في التلاوة بدءاً من منتصف الأربعينيات وأخرج ما بصوته من إبداعات ونغمات كان قد كتمها لحين وقتها. كان الشيخ أبوالعينين أول قارئ مصري يسافرإلى الدول العربية وذلك فى عام 1940 بدعوة من إذاعة الشرق الأدنى ومقرها فلسطين ، فتعاقدت معه لمدة ثلاثة شهور كان يقرأ قرآن ظهر الجمعة فى المسجد الأقصى وتنقلها إذاعتا الشرق الأدنى والقدس على الهواء مباشرة، وزاربعد ذلك معظم الدول العربية كسورياوالعراق والإمارات والأردنولبنانوتركيا، وقد أصيب بمرض في صوته في مطلع الستينيات، غير أنه غلبه وعاد للتلاوة، وعين قارئاً لمسجد عمر مكرم سنة 1969م، ثم لمسجد السيدة زينب منذ 1992م. ناضل الشيخ في السبعينيات لإنشاء نقابة القراء مع كبار القراء وقتئذ مثل: الشيخ محمود على البنا والشيخ عبد الباسط عبد الصمد انتخب نقيباً لها سنة 1988م... وقد نال الشيخ عدة أوسمة من الدول التى زارها، فحصل على وسام الاستحقاق من سوريا ووسام الرافدين من الدرجة الأولى من العراق، على الرغم من أن المناسبة كانت حزينة لوفاة أم الملك فيصل، فإنه تقديراً للقرآن الكريم أعطى الوسام، ومن لبنان وسام الأرز كذلك من الأردن والصومال وتركيا وباريس، وقام بترتيل القرآن ومعه الشيخ عبدالباسط عبدالصمد فى أبوظبى بدعوة من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان فى رمضان لمدة عشر رسنوات متتالية . وهناك بعض المواقف فى حياة الشيخ ، مما حكاه الأستاذ أحمد البلك فى كتابه "أشهر من قرأ القرآن فى العصر الحديث" ذكر أن الشيخ كان الوحيد الذى يقرأ القرآن وهو يرتدى البدلة الطربوش وذلك فى بداية حياته، وفى زيارته لتركيا لإحياء ليالى رمضان، وفى المطار قابله القنصل العام لسفارتنا هناك، وأخبره بأن الطربوش ممنوع حتى على أئمة المساجد إلا وقت الصلاة ! فبحث فى جيبه فوجد شالاً أبيض قام بلفه على الطربوش، وفى تركيا وجد إقبالاً شديداً على الصلاة فى المساجد، فالأسر هناك تخرج للصلاة فى جماعات، فهم يحبون القرآن ويعبدون رب القرآن، وعقب عودته أشار عليه الدكتور عبدالعزيز كامل وزير الأوقاف بألا يخلع العمامة بعد ولبس الجبة والكاكولا معها. وظل الشيخ مخلصاً لكتاب الله ، يعيش فى الظل، لأن الذين يظهرون فى الأضواء هم المطبلون والزمارون للمستبدين حتى شاهد بنفسه انهيار دولة الظلم فى يناير 2011، وتوفي يوم الخميس 21 رجب 1432 ه الموافق 23 يونيو 2011م عن عمر يناهز 89 عاماً.