لا ندعو بالطبع إلى التفريط فى جنيه واحد من المال العام، ولكننا ندعو فى المقابل إلى أن نتأمل المنطق المقلوب، الذى نتعامل به مع المال العام نفسه، ففى موضوع قرية «آمون» فى أسوان، التى قرر رئيس الدولة إلغاء صفقة بيعها إلى إحدى الشركات الكبيرة، لم يتوقف أحد عند أسباب ترك القرية ذاتها، خرابة، لسنوات طويلة، وانشغلنا جميعاً بالذى باع والذى اشترى، وهو أمر مهم طبعاً، غير أن الأهم أن نحاسب الذى كان قد حولها من قبل إلى مأوى للغربان! وفى أرض ميدان التحرير لم يفكر أحد فى محاسبة الذين هدموا قصر هدى شعراوى، الذى كان قائماً فوق الأرض قبل أن تتحول بعد هدم القصر إلى جراج، ولم يفكر أحد فى محاسبة الذى تركها جراجاً لأعوام وأعوام وصلت إلى ربع قرن، ولكننا فكرنا، بهمة بالغة، فى محاسبة الذى قرر أن يحولها إلى فرصة من فرص الاستثمار! وفى أرض «مدينتى» - مثلاً - قررنا محاسبة هشام طلعت مصطفى، لأنه حول الأرض الصحراء هناك إلى مدينة، ولم نحاسب المسؤول عن تركها صحراء لعقود من الزمان! لا أعرف أحداً من أصحاب القطع الثلاث، ولكنى أعرف أن الأرض، أى أرض، حين تباع فإنها تباع من جانب الدولة مرة واحدة، ولكن الاستثمار حين يتحقق كفرصة متاحة فوق الأرض، فإنه يظل متجدداً، باستمرار، بمعنى أن أى مشروع سوف يكسب بالضرورة، وسوف يكون عليه أن يدفع 20٪ من مكسبه ضرائب للخزانة العامة، وسوف ينفق ال80٪ على نفسه، ليتوسع، لأن صاحب رأس المال طماع بطبعه، بما يؤدى إلى فرص عمل أكثر وأرباح أوسع، فتزيد قيمة ال20 ٪ عاماً بعد عام! وقوع مخالفات فى بيع أى قطعة أرض جريمة لا شك فيها، ولكن الجريمة الأكبر، والجريمة الأصل، والجريمة الأساس، هى أن تظل قطعة الأرض نفسها صحراء لسنوات عديدة، فلا يفكر أحد فى مساءلة الذين تقع عليهم مسؤولية إهمالها، وإهدارها، وتبديدها على الملأ، بوصفها مالاً عاماً فى النهاية! زمان.. كان عندنا وزير محترم اسمه فؤاد سلطان، وكان رجلاً يعرف معنى أن يكون فى البلد شىء اسمه استثمار على أصوله، وكان يعرف أنه بهذا المنطق يسبح ضد التيار، ولكنه كان يحاول، ويقاوم، ويصمم، وكان ينجح مرة، ويخفق مرات، وكان يؤمن بأن الأرض يجب أن نمنحها ببلاش لأى واحد يريد أن يستثمر عليها، وكان يعمل على تنفيذ ما يؤمن به، وكان يمنح متر الأرض مقابل سعر رمزى يصل إلى دولار واحد.. ولكن هذا بالطبع لم يعجب الذين لا يحبون أن يعملوا ويكرهون أن يعمل الآخرون، كما كان طه حسين يقول، فخرج فؤاد سلطان، وبقى المنطق المقلوب على حاله! فإذا كان هذا هو حالنا، اليوم، فتقديرى أننا يجب أن نحاكم فؤاد سلطان، وأن نعاقبه بعد المحاكمة، بشرط أن نعيد شرم الشيخ والغردقة والعين السخنة إلى أرض صحراء!.. وكفى الله المصريين شر الاستثمار!