قالت: لم أفهم مقالك السابق، ماذا تريد أن تقول؟ قلت: لا أريد أن أقول شيئاً، فأنا شاهدت بعينى إعدام «المقولة»، وأعرف جيداً أن حمى الكلام السائدة ليست إلا نوعاً من التمثيل بالجثة. قالت: لكن الكلمة فى البدء كانت، وفى الختام تكون. قلت: هذا التعبير الذى تداولناه كثيراً يعبر عن فهم خاطئ وقراءة خاطئة، فالمقصود به هو الله، والتعبير الصحيح من الكتب المقدسة «فى البدء كان الكلمة»، وليس «كانت الكلمة». قالت: لا تعنينى كل هذه القصة، ما يعنينى أن الكلمة تعبر عن مضمون ورسالة، وبالتالى لابد عندما يتكلم شخص ما أن أفهم ماذا يريد أن يقول؟ وما هو مضمون رسالته؟ قلت: وماذا يستخدم الكاذب والمخادع والمتآمر غير كلمات؟.. الكلمة تصلح للتوصيل، كما تصلح للتضليل، ثم كيف نتعامل مع بقية العالم الذى لا يستخدم الكلمات، مع العمارة، والفن التشكيلى، والموسيقى، والطفل الرضيع، والصامتين احتجاجاً أو احتياجاً (ذوى الاحتياجات الخاصة)، وطبعاً لا ننسى الحيوانات وبقية الموجودات فى الطبيعة، من بحار وأنهار وجبال وديار، وليل ونهار، ألا ترين معى أن الإنسان بحاجة إلى توسيع جسور اتصاله مع العالم بعد أن فسدت طرق الكلام؟ ألا يجب أن نستخدم القلب والعين، واسمحى لى أن أسألك بدون أن تفهمينى خطأ، ألا يجب أن نستخدم القليل من الإحساس؟ هل كل ما فى العالم يحدثك بكلمات لها رسالة من نوع «افعل ولا تفعل»؟ قالت: أنت تقول «كل (ما) فى العالم»، ولم تقل كل (من) فيه، وهذا يعنى أنك تفضل غير العاقل، على العاقل، وهذه ميزة الإنسان. قلت: من قال ذلك كان عاقلا بالتأكيد، أما أنا فأدعو إلى بعض الجنون، الدنيا تطورت كثيرا خارج حدود عقل الإنسان الأول، ولو ظل ذلك الإنسان أسير أفكاره العقلانية الأولى بلا خيال وشطحات وجنون، لما تطور العالم إلا «الجنون» الذى نعيشه الآن، هل كان أسلافنا يعقلون أن أحدا سيطير عبر البحر، أو يشاهد شقيقه ويكلمه وهو خلف الجبال البعيدة؟ قالت: وما علاقة كل هذا بعدم فهمى لمقالك السابق؟ قلت: لأننى أردت توصيل «إحساس» وليس «معلومة»، استهدفت الطحين وليس الضجيج، وللأسف المرحلة الآن تفهم وتهتم ب«فاتورة البقال»، أكثر مما تشعر وتهتم بقصيدة الشعر. قالت: هل هذا يبرر الغموض؟ قلت: هل تذكرين حكاية جحا عندما اختاره الناس لخطبة الجمعة للتندر منه، ولم يكن مؤهلاً لذلك، فوقف على المنبر وسأل المصلين: هل تعرفون ماذا سأقول لكم؟، فقالوا: لا، فقال: لا فائدة إذن من كلامى. وفى الجمعة الثانية طلبوا منه الخطبة أيضا: فصعد المنبر وسألهم نفس السؤال، فأجابوا: نعم نعرف، فقال: إذن لا جديد أقوله لناس يعلمون. وفى الجمعة الثالثة اتفقوا أن يقول فريق «نعم نعرف»، ويقول آخر «لا نعرف»، فقال لهم جحا: «إذن الذين يعلمون يخبرون الذين لا يعلمون»، هكذا يمكن أن يتداول الناس ما لديهم دون الحاجة لمنبر وخطيب، طالما أنه ليس لدى الخطيب جديد. قالت: لماذا تكتب إذن؟ قلت: لأننى أسعى لتقديم الجديد، انتقل العالم إلى ما يسميه ريجيه دوبريه «الفيديولوجيا، فيما نتعلق نحن بآليات «الأيدلوجيا»، نؤكد كل يوم سقوط الأيدلوجيات، ثم نكتب ونتحدث والأيدلوجيا أمامنا وخلفنا، فوقنا وتحتنا، وأنا ممن أغرموا بصناديق الأيدلوجيا كثيرا، حتى اكتشفت أن الصورة أبقى من الكلام، وأن خير الكلام ما قل ورسم لنا صورة عصية على التزييف والتضليل، لهذا حذرت من أننا مازلنا غارقين فى زمن الكلام، فيما يستخدم أعداؤنا الصورة فى أحدث تجلياتها. قالت: لم أفهم أيضا، لكننى أشعر بأن كلامك يعجبنى. قلت ضاحكا: مش مهم نفهم قوى، المهم نحس كويس، واللى مش فاهم بكرة يفهم، ففى النهاية لا يصح إلا الصحيح، أو كما نقل عمنا إبراهيم أصلان عن بول فاليرى «وصيتى لك هى الدقة وليس الوضوح». [email protected]