زرت مؤخرا المتحف القومى الأمريكى للتاريخ والعلوم الطبيعية بواشنطن، وكان يحتفل بعيده المئوى، بإقامة معرض خاص لعلوم البحار، حيث يقدم الاثنان – المتحف والمعرض – آخر الأبحاث العلمية وبطريقة بسيطة وجذابة للغاية لنقل المعرفة إلى عامة الناس، كما يوضحان ما يجرى خلف الأبواب العلمية من أبحاث ومجهودات تساعد فى تقدم البشر. شاهدت مخلوقات بحرية لم أكن أعرف عنها شيئاً بجانب شرح تفصيلى وأفلام ونماذج توضح بحار العالم وخواصها وكيفية تكونها وأهميتها فى حياة البشر ومعلومات أخرى غزيرة ومؤثرة، وزاد من انفعالى رؤية طلبة وشباب يتأملون ويتفاعلون مع ما يشاهدون بشغف وتفتح، وكان أحد الأجنحة مخصصاً لعرض تطور حياة الإنسان خلال العصور المختلفة والحفريات التى تم العثور عليها والطرق العلمية التى تم استخدامها فى الكشف والتحقق والاستدلال، وتوقفت لفترة أمام معروض يوضح المشترك فى البصمة الوراثية «D N A» بين الإنسان، وبعض الثدييات الأخرى كالشمبانزى، ورأيت كيف أن الأخير يشترك مع الإنسان فى 98% من خصائص بصمته الوراثية، وتذكرت الدراسة العلمية التى قام بها «سونجين يى»، الذى يعمل فى معهد جورجيا للتكنولوجيا، وهو نفس المعهد الذى يعمل به عالمنا الكبير الدكتور مصطفى السيد، والتى أثبت أننا لا نختلف عن الشمبانزى إلا فى 3% فقط من خصائصنا (دراسات أخرى قالت ما بين 2 و5%)، وأن انفصال الفصيلتين تم منذ نحو 5 إلى 7 ملايين سنة ماضية، وهمست لنفسى: لعل الإنسان يتواضع حين يعرف مثل تلك الحقائق. لقد انتقلت المعرفة إلى المتحف لتكون معروضة بشكل يستوعبه الجميع ويتعلمون منه حتى ولو كانت هناك شكوك فى بعض المعلومات، فمعرفتها تبعث على التفكير والبحث، إما للتأكد من صحتها أو دحضها أو توفير دلائل إضافية على سلامتها، وهكذا تتقدم المعرفة أكثر. رجعت إلى الخلف لأعوام يوم أن اصطحبت ابنى الصغير وقتها لزيارة متحف سان فرانسيسكو للعلوم والاستكشاف، والذى كان من أوائل مؤسسيه عالم الذرة الراحل المعروف «فرانك أوبنهايمر» (خلال مباحثات للسادات مع إسرائيليين استخدموا كثيرا اسم أوبنهايمر حتى اضطر السادات إلى القول: أوبنهايمر أوبنهايمر الدنيا حر خلوها أوبن ذا دور مرة يا جماعة!). مازال ابنى يذكر ما شاهده فى هذا المتحف العظيم رغم مرورعقود على الزيارة، وسوف يجد كل منا فى حياته شيئاً شبيهاً يدل على شدة تعلق النشء بما يرونه مجسدا للعلم ومعجزاته (كحبهم لعروض القبة السماوية)، وتمنيت أن نمنح كل تلميذ فى بلادنا وكل طالب فرصة لزيارة متاحف كتلك، وأن نطلب منهم عمل مشاريع تخرج ابتكارية (وكانهم طلبة هندسة أو فنون) وأن نقيم دورى علمياً بينهم، تتبارى فيه رابعة أول مع رابعة رابع (مثلاً) فى المدرسة الواحدة، ثم على مستوى مدارس إعدادى وثانوى وأن نشكل لجان تحكيم محترمة لتقييم الأعمال ونقدم جوائز للنابهين ونسلط الضوء عليهم، كما تمنيت أن تقيم كل شركة صناعية ببلادنا معرضا بمدخلها تعرض فيه تاريخها الصناعى وبراءات الاختراع التى حصلت عليها، كما تفعل الآن الشركات العالمية الكبرى، فلا يوجد ما هو أشد بؤسا من حوائط عارية لمؤسسة تصارع فى الأسواق وليس لديها دروعها وجواهرها التى هى براءات الاختراع. إن الحوائط الخالية لدليل على قلة الإنفاق على البحث والتطوير وعلى غياب ثقافة الإبداع فى المجتمع كله، إننى أذكر افتتاننا فى الصغر بالمتحف الزراعى، الذى يعرض تطور الأدوات والآلات الزراعية لقدماء المصريين! فلماذا لا نرى إضافة أو نرى معرضا آخر يعرض جديدنا فى التكنولوجيات الزراعية وعلوم الهيدروليكا (الرى) الحديثة والبيوتكنولوجى والهندسة الوراثية؟. أين يمكن للمصرى أن يرى مبتكرات العصر وإبداعات مهندسينا وعلمائنا منذ عهد محمد على. وقد تذكرت حديثا جرى منذ سنوات مع الدكتورة فينيس كامل جودة، وزيرة البحث العلمى سابقا - وكنت قد تعرفت عليها وهى وزيرة أيام قدومى للمشاركة فى مؤتمرات «علماؤنا فى الخارج» - وكشفت لى أنها كانت قد تقدمت بمقترح لإنشاء متحف علمى رفيع المستوى وخططت للحصول على التمويل اللازم من اليونسكو وألمانيا ومصادر أخرى حتى لا تكلف الخزانة العامة عبئاً، وتناقشت معها حول أن آلاف المدارس فى مصر ليس لديها إمكانيات ولا معامل ولا وثائق مدون بها تقدم العلم، ومن ثم يصبح مثل هذا المتحف أفضل وسيلة للتعويض عن ذلك وترسيخ مبادئ أساسية لابد لكل إنسان أن يلم بها، ومن عجب أن مصادفة جمعتنى والدكتورة فينيس منذ أيام فأخبرتنى بأن الدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية، ربما يقوم بالمهمة أخيراً، فقلت هذا تطور مفرح وأدعو كل مؤسسات المجتمع المدنى والشركات والقادرين للإسراع بتنفيذ المتحف واعتباره نواة لسلسلة متاحف متخصصة فى محافظاتنا. رئيس جامعة النيل