ما الذى يجمع بين الفلاحين فى المزارع الجماعية السوفيتية فى عهد ستالين فى الثلاثينيات، وفلاحى الصين فى زمن الثورة الثقافية فى عهد ماوتسى تونج فى الستينيات، وشباب الحرس الثورى الإيرانى فى وقت الحرب مع العراق أيام حكم الخومينى فى الثمانينيات؟ يجمع بينهم، أولاً، أنهم كانوا أدوات لمشروع أكبر منهم، وأكبر من الواقع ذاته.. يجمع بينهم، ثانياً، أن الملايين منهم قضوا قبل الأوان. الأيديولوجية هى لعنة القرن العشرين دون منازع، الملايين فقدوا حياتهم فى أركان الأرض الأربعة بسبب هذه الأيديولوجية أو تلك، بعضهم مات سعيداً، لأنه يدفع حياته ثمناً لما يعتقد، أغلبهم كان مجرد «خسائر جانبية»، ساقهم الحظ العسر إلى المكان الخطأ فى الوقت الخطأ، فى معركة لم يدركوا لها أى مغزى، ولم تكن تعنيهم فى قليل أو كثير. الأيديولوجيات لا تهدف إلى القتل طبعاً، الأيديولوجية غايتها الوصول بالمجتمع إلى حالة مثالية يتصورها أصحابها الذين لا يرون الواقع كمعطى، وإنما كأداة للوصول إلى الهدف المنشود، الأيديولوجية هى فكرة شاملة.. فكرة كبرى تفسر العالم كله، تعيد صياغته وترتيبه وفقاً لنموذج مثالى. الأفكار الكبرى الشاملة من هذه النوعية لا تلقى القبول فى المجتمعات بسهولة، مثلها فى ذلك مثل الأديان فى مراحلها الأولى، تتكتل مصالح تقليدية ضدها، وتتحزب تقاليد راسخة فى مواجهتها، الأكثر من ذلك، أنه من الصعب أن تقنع الإنسان العادى بنبذ كل أو أغلب ما يعتقده عن طريقة إدارة الحياة والمجتمع، وتبنى نموذج كلى مغاير، لهذا السبب أدرك أصحاب الأفكار الكبرى أنه لا سبيل لإنزال أفكارهم من مستوى النظرية إلى أرض الواقع إلا بالوصول إلى السلطة، واعتلاء سدة الحكم.. هكذا فهم لينين وهتلر والخومينى وحسن نصرالله. الوصول إلى السلطة هدف رئيسى عند أصحاب الأيديولوجيات الكبرى، لأنه يمثل النافذة الوحيدة لإعادة هندسة المجتمعات على الصورة التى يريدون، تغيير المجتمعات يصير أسهل كثيراً عن طريق التحكم فى مفاصل السلطة التى تشمل القمع من جانب، وأدوات الاتصال الجماهيرى من جانب آخر، هذه الأخيرة لعبت دوراً هائلاً فى نشر الأيديولوجيات فى القرن العشرين. ما موقع الإخوان المسلمين من هذا كله؟ الإخوان لديهم أيديولوجية كبرى وشاملة، لا شك فى هذا، وككل أصحاب الأيديولوجيات وضعوا السلطة نصب أعينهم من البداية، وصولهم لها تأخر ما يربو على ثمانين عاماً، خلال هذه الفترة الطويلة طور الإخوان جميع الأساليب وابتدعوا مختلف الأدوات التى تحقق هذا الهدف، أرسوا دعائم التنظيم، وحافظوا عليه، تعلموا كيف يناورون الدولة الأمنية، وكيف يتحملون ضرباتها المتتالية دون أن ينهار التنظيم، اكتسب الإخوان أمراً آخر خلال هذه الرحلة الطويلة: فقه التعامل مع الواقع المحيط، أى العقل السياسى الذى يفرض حواراً مستمراً مع الواقع، ويحتِّم مرونة ويكسب قدرة على التأقلم والتكيف. الآن يجد الإخوان أنفسهم أمام اختيار مصيرى: إما الأيديولوجية، وطريقها معروف، وإما إدارة الواقع كما هو والتعامل مع معطياته بهدف تحسينه، وهذا هو الطريق الصعب، لأن نتائجه لا تأتى سريعاً، وربما تكون عكسية فى البداية، إغراء تبنى الأيديولوجية الشاملة لا يُقاوم، إجاباتها الجاهزة والشاملة تُمكِّن من التغطية على أى فشل، حبوبها السحرية تشبه المخدرات، تنسى الأوجاع وتجعل المرء يحلق نشوان فى سماء الخيال والوهم. أصحاب الأيديولوجيات لا يمكنهم مراجعة أفكارهم الشاملة والمطلقة بسهولة، إنها عملية تشبه الإقلاع عن إدمان دام العمر كله، تشبه الانفصال عن رفيق عمر فى منتهى الرحلة، الأصعب أن الاختيار ينبغى أن يكون حاسماً: هذا طريق، وذاك سبيل مختلف تماماً، لا يمكنك أن تضع قدماً هنا والأخرى هناك، لا يمكنك أن تسافر إلى الإسكندرية وأسوان فى الوقت نفسه، طريق الأيديولوجية زلق للغاية، دائماً ما يغرى بالإيغال.. خطوة تجر أخرى، فى أغلب الأحيان يوصلك إلى مرافئ قلما كان فى البال الإبحار إليها، السائر فيه كالمنبت.. «لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».