ليس من باب السخرية أو التندر أن نقول إن الحكومة هى الضمانة الوحيدة لتغيير النظام فى مصر ودفع الناس إلى التحرك ضده. ويخطئ من يظن أن الإخوان أو البرادعى أو الأحزاب السياسية أو الحركات الاحتجاجية قادرون على تهييج الشارع بصورة تطاول قدرة الحكومة أو اجتهادها فى ذلك. فأمام السياسات التى تنتهجها والتشريعات التى تسنها والقرارات التى تتخذها سوف يجد المواطن المصرى نفسه مضطراً إلى التحرك ضدها، وإحداث تغيير فى النظام الذى ترتكز عليه، فمصر لم تشهد عبر تاريخها حكومة تتعامل بهذا القدر من الإصرار على إثارة الناس ودفعهم إلى الفوضى. ومن المفارق أن حكومة الحزب الوطنى تفعل ذلك فى الوقت الذى تحذر فيه القوى السياسية المعارضة من محاولاتها العاجزة واليائسة الهادفة إلى تحريك الشارع دون أن تفلح! فما معنى – مثلاً – أن تفكر الحكومة فى إلغاء الدعم على البنزين وغيره من المشتقات البترولية سوى أنها تريد تسخين الشارع حتى الفوران؟ لقد خرج علينا الدكتور على الصعيدى، رئيس لجنة الطاقة فى الحزب الوطنى، وزير الصناعة السابق، يدعو إلى ضرورة أن تتبنى الدولة سياسات مختلفة لدعم الطاقة تقوم على تحميل من وصفهم ب«القادرين» تكلفة استهلاكهم من الطاقة مع مراعاة البعد الاجتماعى للفقراء، مشيراً إلى إمكانية الاعتماد على سياسة الكوبونات لتوجيه الدعم إلى مستحقيه سواء بالنسبة لاستهلاك البنزين أو البوتاجاز. وعندما ترفع الحكومة شعار «فلنأخذ من جيوب الأغنياء لنعطى الفقراء» فاعلم أن النية قد أصبحت مبيتة لاتخاذ قرار برفع الأسعار! ويبدو أن سحب أنابيب البوتاجاز من الأسواق خلال الأسابيع الماضية كان مجرد بالون اختبار اكتشفت الحكومة من خلاله أن النسبة الأكبر من أفراد هذا الشعب يدّعون الفقر بعد أن اشتروا الأنبوبة بسعر يتراوح بين 30 و50 جنيهاً، مما يعنى أن غالبية المصريين يدفنون الكثير تحت البلاطة، وأنه قد آن الأوان لسحبه منهم، لأن «اللى تعوزه الحكومة يحرم على المواطن»!. وقد حدثت أزمة مماثلة فى سوق السولار، حيث شهد شهر مارس الماضى نقصاً فى المطروح منه داخل الكثير من المحافظات، وسرت إشاعة بوجود نية لدى الحكومة لرفع أسعاره. وبيع جالون السولار وقتها بثلاثين جنيهاً بدلاً من سعره الحقيقى (22 جنيهاً). ويزعم بعض المسؤولين الحكوميين أن السعر الحقيقى للتر السولار يتجاوز سبعة جنيهات، فماذا يا ترى سوف يكون سعر لتر البنزين دون دعم؟! الحكومة تريد أن تحل مشكلة العجز فى موازنتها العامة، الناتجة عن تفاقم الدين العام الداخلى، من خلال تقليص الدعم المرصود للبنزين والبوتاجاز والكيروسين والسولار، بمعنى أنها تريد أن تحل مشكلتها على حساب المواطن «الغنى ابن الإيه» لكى تعطى للمواطن الغلبان الذى يجلس على رصيف مجلس الشعب فى انتظار الفرج. وهى تفعل ذلك رغم أن مسؤوليها «العباقرة» يمكنهم حل هذه المشكلة بمنتهى السهولة من خلال بيع المشتقات البترولية لمصانع الحديد والأسمنت والألومنيوم والأسمدة بأسعارها الحقيقية (العالمية) وترحم «جيب المواطن». وقد قدر أحد الخبراء الاقتصاديين أن أكثر من ثلثى الدعم المخصص للطاقة فى الميزانية العامة يذهب إلى أصحاب هذه الصناعات الاحتكارية، خصوصاً صناعة الحديد! ومن المعروف أن سعر طن الحديد الآن يتجاوز أربعة آلاف جنيه، فى حين أن السعر الحقيقى لبيعه (شاملاً التكلفة والربح) لا يتجاوز 1200 جنيه مصرى طبقاً لتقديرات عدد من الخبراء! الحكومة بالطبع لن تقترب من جيوب أصحاب هذه المصانع، وفى أقصى تقدير سوف تعاملهم كما تعامل المواطن العادى الذى يعتلى كرسى الميكروباص أو يقود سيارة 128 متهالكة مباهياً غيره بأنها «بتشم البنزين فقط»! لن تفعل الحكومة ذلك لأنها مصرة على دفع المواطن دفعاً إلى اليأس من حياته بعد أن يتسبب ارتفاع أسعار البنزين والسولار والكيروسين فى زيادة أسعار جميع السلع التى يحتاج إليها فى معيشته، وبذلك لن يكون أمامه سوى مواجهة الحكومة. ومن اللافت للنظر أن الحكومة لا تتردد فى معايرة المواطن بدعمها للبنزين والغاز الطبيعى والبوتاجاز، فى الوقت الذى تبيع فيه برميل البترول لإسرائيل بما يزيد قليلاً على ثمانية دولارات (أى حوالى 44 جنيهاً) بينما تريد بيعه للمواطن بسعره الحقيقى الذى يصل إلى 82 دولاراً (أى ما يزيد على 410 جنيهات)! وفى الوقت الذى تريد فيه بيع الغاز الطبيعى للمواطن بما يقرب من 7 دولارات (ما يزيد على 35 جنيهاً) نجدها تبيعه لإسرائيل بدولار ونصف (أى حوالى ثمانية جنيهات). وعندما رفض بعض نواب مجلس الشعب هذا الهزل أثناء عرض الميزانية العامة لعامى 2008 – 2009 أسكتهم نواب الأغلبية المنتمية للحزب الوطنى بسيف الموافقة! فالحكومة لا تريد أن يتحمل رجال الأعمال الذين راكموا الثروات العجز فى الموازنة، وهى لا ترغب أيضاً فى تعديل الأسعار «السياسية» التى تبيع بها الغاز الطبيعى والبترول لإسرائيل كحل للمشكلة، إنها لا تفكر إلا فى أحبائها المواطنين «الكسالى» الذين تحاول تحريكهم بشتى السبل دون أن ينتفضوا فى وجهها، لذلك لم يعد أمامها سوى أن تقهرهم قهراً على التحرك بعد اشتعال الأسعار جراء الارتفاعات الجديدة التى سوف تفرضها على أسعار مصادر الطاقة. إن كل ظاهرة وكل مؤسسة وكل حكومة وكل دولة فى الدنيا تدخر فى كيانها جرثومة تآكلها و«سوسة» انهيارها. والأداء الحالى للحكومة المصرية خير شاهد على ذلك، فهى ترتكب الحماقة تلو الأخرى بصورة لن تترك لهذا الشعب أى فرصة لكى يتكيف مع الأوضاع المعيشية القاتلة التى تحيطه بها، لتسوقه – وهو المواطن الأليف المتكيف - إلى التناحر السياسى معها. وبذلك تكون هذه الحكومة «الاستثنائية» قد أفلحت فى صنع المعجزة التى لم يقدر عليها كل من البرادعى والإخوان والأحزاب، عندما فشلوا فى دفع الكتلة الضخمة الصامتة إلى التحرك من أجل التغيير، وقامت الحكومة بهذا الواجب بالنيابة عنهم. ولن ينسى دعاة التغيير بالطبع أن يرسلوا عندئذ برقية شكر إلى الحكومة يحيون فيها عبقريتها ونجاحها فى تحقيق ما عجز الجميع عنه من «تحريك» للشارع بمجرد «تحريك» الأسعار.. فالبركة لم تعد فى الحركة، بل فى التحريك!