أكتب من واشنطن، حيث أقوم بزيارة عمل شاركت خلالها فى فعاليات نظمتها جامعات وجماعات وجمعيات أهلية لبحث تطورات الأعمال والتكنولوجيا فى العالم وكيفية التعاون بين الأطراف المختلفة لدعم مبادرة الرئيس أوباما الخاصة بريادية الأعمال كأداة لتقوية العلاقات بين أمريكا والعالم الإسلامى والدول النامية، وقد ألقيت كلمة بعنوان «ريادة الأعمال فى خدمة المجتمع» خلال لقاء نظمته جامعة «جورج ميسون» و«مركز الشرق الأوسط للتعاون الدولى»، وبدلا من عرض مضمونها عليكم، أود أن أقدم خبرة عملية ذات ارتباط بما قلته فيها. لقد انتهزت فرصة الزيارة والتقيت بزملاء ومسؤولين وطلبة فى جامعة «ميامى» التى قمت بالتدريس فيها لسنوات طويلة قبل أن أعود منذ عامين لأترأس جامعة «النيل»، وأجريت نقاشات مع الطلبة الذين جاءوا لتحيتى واستشارتى فى أبحاثهم، وكان هدفى التعرف على الجديد فى الجامعة وفى أدمغتهم . ومع أنى من أوائل من درسوا ثورة التكنولوجيا وكتبوا عنها وعن انفجار المعلومات والمعرفة، كانت دهشتى شديدة للتقدم الكبير فى التكنولوجيا الذى حدث خلال العامين اللذين تركت فيهما جامعة ميامى، وقد رأيت مع الطلبة أجهزة وكمبيوترات وهواتف نقالة من أنواع لم أرها أو أعرفها من قبل، ورحت أسأل كل واحد منهم عما يفعله بما يحمل فقال واحد إنه يتصل من خلال جهازه الصغير بال(كلاود كمبيوتر) – كمبيوتر السحاب – الموجود بالجامعة والذى يحفظ فيه كل ملفاته وأبحاثه ليستدعى ما يريد، وأضاف أنه يمكنه من خلال الاتصال «بالكلاود» استخدام كل البرامج التى يرغب فى استخدامها، وحيثما كان فى أى مكان فى العالم، ودون أن يدفع شيئا، وأيضا دون أن يتكبد عناء التحميل أو الذهاب للوقوف فى طوابير أمام مكتبة الجامعة أو حتى معاملها ليحصل على المعلومات، ويكفى فقط أن تكون طالبا بالجامعة. وقد توقفت كثيرا عند فكرة كمبيوتر السحاب هذه لاعتقادى أنها يمكن أن تقدم خدمة جليلة لرواد الأعمال فى بلادنا، خاصة أولئك الذين يعوزهم رأس المال فوجود «كمبيوتر سحاب» يجعل التكلفة الوحيدة التى سيتحملها أى راغب فى بدء نشاط جديد هى التكلفة المتغيرة، علاوة بالطبع على ثمن الجهاز الذى سيحمله ليتصل من خلاله بكمبيوتر السحاب.. لن يحتاج إلى مئات آلاف الجنيهات لعمل بنية تكنولوجية لمشروعه أو لشراء برامج غالية، قد لا يحتاج إليها إلا لوقت قصير، أو قد تتقادم بسرعة فيتكلف الكثير لشراء غيرها. مع كمبيوتر السحاب سيجد رائد الأعمال المبتدئ كل تطبيقات ومعلومات العالم بين يديه بما فيها الأحدث منها.. أمامه تيار متدفق وما عليه إلا أن يكون مبتكرا ومبدعا هو الآخر.. أن ينتج التطبيق الجديد أو يطور القائم ويبيع فكرته ليربح. قد يبيع فكرة بسيطة بثمن زهيد لكنه يمكن أن يجنى منها ملايين لأن زبائنها من الكثرة بمكان. ليس شرطا أن تبدأ بأفكار كبيرة أو بمال وفير، فازرع من خيالك وعقلك واحصد يا بطل. إننى أتمنى أن تقوم منظمات المجتمع المدنى بأوسع عملية تثقيف للشباب الراغبين فى بدء عمل جديد لتنويرهم بما يمكن أن ينجزوه من خلال التكنولوجيا ومعجزاتها. أعود إلى الطلبة فقد عرفت منهم أن هذا يبحث بالهاتف عن موضع صديق له من خلال «جى بى إس» ليحدد بدقة أين هو؟ وذاك قال إنه يطلب من خلال الهاتف قطعة موسيقية شعر بحاجة للتو إلى سماعها، ورابعاً قال إنه يصور بجهازه المحمول «الباركود» الخاص بأى سلعة يريد شراءها من «المول» ومن خلال برنامج معين يتمكن من أن يقارن فى ثوان سعرها بالأسعار فى جميع المتاجر التى تبيع مثلها، وخامساً يستدعى أفلاماً من على «يوتيوب» ليشاهدها وهكذا وقام واحد من الحضور بالتقاط صورة لاجتماعنا وأرسلها مع تعليق إلى صديق فى ماليزيا وتلقى جوابه، وقال أخير إنه يتتبع بالموبايل جميع الأفلام المعروضة بدور السينما ليحدد أيها يشاهد بعد انتهاء اجتماعنا ويحجز التذكرة إلكترونيا. تطبيقات لا حصر لها أصبحت تتيحها التكنولوجيا وتتيح معها فرصا جديدة للعمل والإبداع والحياة بشكل مختلف، وتطورات سريعة فى عالم التكنولوجيا علينا أن نمسك بتلابيبها قبل أن يفوتنا القطار. اللحاق لا يعنى اقتناء أحدث الأجهزة فذلك قد لا يفيد كثيرا لكنه يعنى إبداع أحدث الأفكار وترجمتها إلى منتج وتسويقه. لن نبنى مكانتنا ونحن واقفون فاغرو الأفواه دهشة إزاء سرعة التطور التكنولوجى الرهيبة بل ونحن فى قلب تيار الحداثة نقوده دون أن ننقاد له. إن من دواعى الفخر أن طلبتنا فى جامعة النيل يقومون بنفس ما يقوم به نظراؤهم فى أكثر جامعات العالم تقدما فى مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والنانو وهندسة إدارة الخدمات والنظم الذكية بأنواعها لكن مازال أمامنا الكثير فى «النيل» نفسها لنحقق مركزاً متقدما بين الجامعات المصنفة دوليا كما نطمح، أيضا فإن «النيل» هى قطرة فى المحيط المصرى، ولن نتقدم إلا بحركة نهوض تكنولوجى شاملة، ويوجب ذلك أن نفتح الطريق لكل مبدع وأن نزيل العوائق من أمام حرية الرأى والفكر، وأن نستكشف المبتكرين ونحفزهم وندفع بهم إلى مقدمة الصفوف. إننى أكتب تلك الكلمات بينما الطوابير تمتد أمامى فى انتظار الحصول على جهاز «آى باد» الذى يختصر ثلاثة أجهزة فى واحد (محمول ولاب توب وشاشة عرض سينما وفيديو وموسيقى وأغانى) ولا يشغلنى طوال الوقت سوى السؤال: ما الجديد الذى سيقدمه «ستيف جوبز» – صاحب أبل - بعد ذلك؟ وكيف نهضم هذا السيل من الابتكارات ونستفيد منه؟ ربما أتحدث عن هذا الجهاز ومبتكره فى مقال آخر. انتهى احتكار الإبداع وسيطرة رأس المال عليه بفضل التكنولوجيا المذهلة وعلينا أن ندعم تمكين شبابنا تكنولوجيا، فهم الأمل لنأخذ مكاننا بين المتقدمين وننمو وننافس وننتعش.. فمتى نفعل؟ د. طارق خليل – رئيس جامعة النيل