لا أميل بطبعى إلى تفسير الأمور بمنطق المؤامرة، ولا أنصحك بذلك، وما يحدث فى ملف مياه النيل، مع رصد تدخل أطراف خارجية فى المنطقة، لا يمكن أن تسميه مؤامرة بقدر ما هو أداء سياسى كفء لأطراف تفتش عن مصالحها، وتخدم سياساتها، مستغلة فى ذلك تراجع دورك، وتردّى كفاءتك، وانشغالك لسنوات طويلة عن مصالحك الحيوية، وإهمالك لها. لماذا تلوم إسرائيل أنها حاضرة وفاعلة فى منطقة منابع النيل، ولماذا تتهمها بمحاولة ضرب مصر فى أعز ما تملك، ولماذا تلوم إيران، وتقول إن المد الشيعى فى المنطقة يتزايد منفذاً أجندته الخاصة جداً، ولماذا تلوم الصين والولايات المتحدةالأمريكية، وكل الدول التى تغرى بلاد المنبع بالمعونات والمساعدات، وتفتح أمامها آفاقاً تنموية على مياه النيل، وتقلقها من الخطر الغذائى المقبل، وتضعها أمام معادلة صادمة، «أمن مصر المائى يهدد أمننا الغذائى».. لماذا تلوم من يعمل ويجتهد ويسعى ويتحرك ويؤثر، ويخدم مصالحه بكفاءة وحيوية، فيما أنت غافل ومرتكن إلى ماضٍ لم يعد يسمن ولا يغنى، وعبارات رنانة لا تشبع ولا تروى ظمأً؟! لم تضع هذه الأطراف فى تلك المنطقة قدماً إلا بعد فراغٍ تركته مصر وقدم سحبتها من المنطقة.. والأزمة الآن التى يؤكدها الواقع السياسى هناك لم تعد فقط مشكلة بين مصر ودول المنبع، فأى تفاوض مباشر مع تلك الدول، يغفل تأثيرات الأطراف الخارجية ولا يضعها فى الاعتبار، كأنك تضحك على نفسك، لذلك أتعجب من رِدة الفعل المندهشة التى قابلت ما طرحه الكاتب السعودى المتميز داوود الشريان، فى عموده المتألق بجريدة الحياة اللندنية «أضعف الإيمان» حين دعا مصر للتفاوض مع إسرائيل لحل أزمة مياه النيل...! يقول الشريان: «إن جزءاً كبيراً من الآراء التى تطرح فى مصر تتحدث عن مؤامرة إسرائيلية، وسبق لوزير الرى الإثيوبى أن طمأن المصريين بأن بلاده لن تبيع الماء للدولة العبرية، وقال للصحفيين: ليس لمياه النيل أجنحة تطير بها الى إسرائيل، على الرغم من أن مياه النيل يمكن أن تصل إسرائيل من دون أجنحة، والوزير يعرف ذلك جيداً، ولهذا فإن الحل الأمثل أمام مصر هو الشروع فوراً فى مفاوضات مع إسرائيل لتزويدها بالماء. وإذا كانت إسرائيل ستحصل على خراج مياه النيل فى أفريقيا، وعلى حساب أمن مصر المائى، فلماذا لا تتولى مصر زمام المبادرة، على طريقة بيدى لا بيد الدول السبع، وبهذا ستكسب المعركة وتغلق الملف الخطير إلى الأبد». ربما أجد مثلك قدراً من التحفظ على دعوة الشريان، لكن الأمر فى مجمله لا يخلو من وجاهة، حيث يضع داوود يده على جزء مهم من الأزمة، فهناك عدة أطراف دولية خلقت لها مصالح ووجوداً ومطامع فى منابع النيل ومياهه ومنطقته، وهى مساحات اكتسبتها بفعل الأداء المصرى المتردى هناك، وهذا الفشل الذريع جعل التفاهم مع هذه الأطراف جزءاً من الحل.. لا أطالب بمنح إسرائيل ماء النيل مثل الشريان، وإنما أطالب بالتفاهم معها فى مناطق والضغط عليها فى مناطق أخرى لإقناعها بالإبتعاد عن المنطقة أو إجبارها.. أيهما أيسر! أضف إلى إسرائيل، إيران والصين وأمريكا وجنوب أفريقيا، فالأزمة ليست مع 7 دول فقط فى حوض النيل..! [email protected]