«طابور من سيارات الشرطة والمطافىء تتقدمها مدرعات الأمن المركزى، وفى المقابل شبان ملثمون وإطارات مشتعلة»، مشهد كثيراً ما يمكن أن تراه عين الزائر لرفح والشيخ زويد، قد تختلف الأسباب، ما بين حملة مصادرة للأنفاق والبضائع المهربة وإزالة لمبان وبيوت غير مرخصة أقامها البدو، ومطاردة أمنية لمطلوبين، لكنها تلخص طبيعة العلاقة بين أهالى سيناء والشرطة. لا تقتصر المشكلات بين الأمن والبدو على الاحتكاكات اليومية، بل تتجاوزها إلى الملاحقات والأحكام الغيابية. يقول العميد رشدى غانم فخر الدين، الخبير الأمنى والباحث فى الشأن السيناوى إن مشكلة «المحكوميات» العالية تتصدر أكثر الملفات الأمنية الشائكة للبدو فى شمال سيناء، ويضيف الرجل الذى خدم ل30 سنة فى الشرطة، أن آلاف «العرب» صدر ضدهم أحكام جنائية غيابية، بعضها لجرائم ثابتة وأخرى لم يتم التحقق منها، وصدرت لمجاملات أو تم تلفيقها، والنتيجة أن مدينة مثل رفح بها أكثر من 6 آلاف حكم غيابى، فحصها وإلغاؤها بات ضروريا لنزع فتيل التوتر بين المواطن السيناوى والأمن . ولا ينكر فخر الدين أن عددا من البدو يستخدمون السلاح فى التعدى على الطرق وقطعها والخروج على مظاهر القانون، لكنه يرجع هذه التصرفات إلى تدمير الحكومة لأعراف البدو بتدخلها فى اختيار المشايخ، مما أفقد وظيفة شيخ القبيلة هيبتها، وكانت النتيجة كسر هيبة الشرطة فى نفوس البدو، الذين يحتمى أغلبهم بالسلاح واختطفوا عساكر للأمن المركزى فى السابق، لكنه يرى أن استمرار الضغط الأمنى على البدو يضعف انتماءهم، وهناك مواقف تدعم الثقة فيهم، ولا يجب أن تنساها الحكومة، خاصة حين فتحت الحدود بين معبر رفح وقطاع غزة قبل عامين، وأثناء ذلك تعاون البدو مع الأمن لمنع المتسللين من الدخول إلى مصر. توجهنا لزيارة مناطق المهدية والماسورة ومدينة رفح للتعرف على مشكلات البدو بعد 28 عاماً من تحرير سيناء، عبدالهادى عتيق، أحد شيوخ السواركة الذين حظوا بنصيب من التعليم، حاصل على بكالوريوس تجارة 1990، ويعمل مدير شؤون خرائط المعلوماتية فى قرية الشباب، يقول عتيق «آخر تعيين للبدو كان فى 1989، وأغلبنا معين بعقود مؤقتة، منا من يحصل على 100 جنيه و150، أما أنا فراتبى 250 جنيهاً بعد 9 سنوات من العمل». ويضيف: مشكلتنا هى «المواطنة» بالدرجة الأولى، نريد أن نشعر بكرامتنا التى تهان، فالبدوى يعامل بشكل سيئ فى الكمائن المرورية، وليس من حقنا تولى مناصب إدارية عليا، ويوضح: عندنا عدد من أبناء سيناء يعملون فى الجهاز الإدارى للدولة لكنهم لا يترقون إلى مناصب أكبر، وعلى سبيل المثال، رئيس الوحدة المحلية لقرية المهدية مواطن من الشرقية، ولا يوجد موظف سيناوى بدرجة مدير عام، ويزداد الأمر صعوبة فى التقدم لكليات الشرطة، ونسبة قليلة فقط يلتحقون بالأجهزة الأمنية والشرطة، وعلى مستوى قرانا المحيطة «شبانة، والمهدية، والجورة، والظهير» وغالبية سكانها «سواركة»، لا يوجد من بينهم ضابط شرطة و«لا حتى أمين شرطة». وتابع: ثانى المشكلات هى التنمية، فهناك نسبة عالية من البطالة، وخصوصية مجتمعنا أنه قبلى، وليس عندنا تنوع فى مصادر الرزق، وتتضاعف المشكلة مع الخريجين، طابور من البطالة، 70% منهم تعليم متوسط، 17% فوق متوسط، والباقى تعليم عالى، و90% منهم عاطلون. يتدخل سعيد عواد من «المهدية» فى الحوار ويقول «باب العمل عندنا مغلق، إما أن يعمل البدوى مزارعا أو سائقا، والبديل الثالث هو التهريب» الذى يصفه بالمتاهة، ويتابع: «إذا لم تجد للناس بديلا للشغل، ستتجه إلى هذا الطريق». لم يكن عواد يبالغ، فطوال الطريق من الماسورة إلى رفح، تنتشر سيارات نقل البضائع إلى الأنفاق فى الطرق الجانبية، وإلى جوارها السيارات الفارهة للبدو وبعضها من نوع «الكروز واللاند كروزر»، وكثير منها لا تحمل لوحات معدنية، هذه المركبات الفاخرة، هى جانب من مظاهر الثراء، الذى لا تخطئه عين الزائر لهذه المنطقة الحدودية، لكن الصورة الأكثر وضوحا هى الفيلات والقصور المنتشرة بين سكان المنطقة. ويقول إبراهيم عايش، من سكان المهدية، إن الأنفاق والتهريب أنعشا اقتصاديات السكان، لكنه يظل اقتصادا غير قانونى، عقد أوضاعهم الأمنية. ليس كل أهل شمال سيناء يعملون فى الأنفاق، فإلى جوار الفيلات الفاخرة، هناك عشش من جريد النخل لبعض السكان يعيشون تحت خط الفقر. أم محمود واحدة من عائلة الملالحة، أفقر أهل رفح، تجلس وسط عريش من جريد النخل هو بيتها، فى انتظار زوجها الذى يزرع البطيخ فى الجبل، وأبنائها الثلاثة العائدين من المدرسة، تربى أم محمود «غنماتها» وتقول إن الحكومة لم تهتم بهم، فليس لديها مسكن مناسب وأنها تشترى المياه و«الطحين». أما الحاج سعيد عودة، من قرية المقاطعة فى رفح، فلا يرى الصورة شديدة السوء، ويضيف: «أيام الاحتلال كان الواحد مش لاقى سكن، الحين، كلها عمارات ومبانى»، سألناه عن الخدمات فقال «طبعا هناك خدمات وصلت، وكنا قبل ذلك فى الحضيض، لكن أغلب التنمية تمت بجهود أهلية، ويضيف «الخضار الذى تراه والزيتون والخوخ ليس للدولة فيه أى فضل». ويرى عودة أن المشكلة المتبقية الآن، هى تملك البدو أراضيهم، ويتابع: صحيح أن من يتقدم بطلب الترخيص يستلم العقود الخاصة بأرضه، ويدفع عنها ضرائب، لكن لا تزال هناك مشكلة فى الأراضى المستصلحة. إذا كان هذا هو الحال فى رفح ومحيطها، فالأوضاع تسوء أكثر فى وسط سيناء، الجورة والحسنة ونخل، أكبر التجمعات البدوية فى هذه المنطقة، لكنها الأكثر فقراً. وأشار تقرير التنمية البشرية العام الماضى إلى أن هذه المناطق تعتبر من أعلى معدلات الفقر فى مصر، يقول ناصر حميد، من الحسنة، إن مياه الشرب لم تصل إلى المدينة عبر خطوط حتى الآن، وأهلها يعانون من نقص الخدمات الصحية. وما بين التوتر الأمنى ومشكلات التنمية، يظل البدو يشعرون بحاجة ماسة لحلول جذرية لمشكلاتهم، لا تغفل الجانب الأمنى، وتضع التنمية على رأس الأولويات.