وقعت فى مأزق وأنا أستعد للحديث عن أمى - يرحمها الله- بمناسبة عيد الأم كنموذج للمربية الواعية المدركة لمسؤولياتها كلها، وفى مقدمتها التربية. المأزق يكمن فى حرصى على امتداح أمى والثناء على أدائها لرسالتها بأعلى درجات التفانى، مع عدم السقوط فى اعتبارى أنا مقياسًا لنجاحها. مأزق كبير.. لكن الخروج منه يسير جداً، ألا وهو الحديث عن أمى فى علاقتها بإخوتى، لأبقى أنا معكم خارج الصورة مراقبًا وشاهدًا وراويًا. «أم إخوتى» نَشَأَتْ فى مدرسة فرنسية للراهبات، وَدَخَلَتْ جامعة القاهرة لتدرس الآداب وتتخصص فى اللغة العربية. عملت بمكتبة الجامعة، ثم قررت التفرغ لتربية أبنائها (إخوتى). أبوها الأستاذ إسماعيل وهبى شقيق الفنان الرائد يوسف وهبى، جدها عبد الله باشا وهبى -باشا حقيقى- ومع هذا تزوجت ابن الفلاحين عبدالمنعم الصاوى (يرحم الله كل المذكورين). أمى -أقصد أم إخوتى- كانت مهذبة إلى أقصى درجة؛ لا تعرف لفظًا نابيًا، تنادى جامع القمامة ب«أستاذ زبَّال»، حينها ضحك عبدالمنعم الصاوى، ابن البلد، حتى سقط على أقرب كرسى، ولكنه كتم ضحكته ليؤكد لها اعتزازه بأدبها الجم، كما سمعته -بعد عودتها من مأتم أبيها «جد إخوتى»- يقول لها: احترامى لكِ ولعائلتك تضاعف اليوم بعد أن رَصَدْتُ بنفسى مدى وقاركم والتزامكم الصمت والخشوع فى مراسم الجنازة والدفن وَتَلَقِّى العزاء. يقول ذلك مقارنًا بصراخ وعويل ولطم للخدود (أقل واجب!). تعلم إخوتى أن يبادر المخطئ بالاعتذار، وأن يقدموا الكبير عند المرور من باب أو طريق، كما يسارعون بالوقوف لترك الكرسى للمسن أو المريض. يقف إخوتى عند التحية أو السلام على الناس ولا ينسون أبدًا ابتسامة الترحيب والمودة. سريعًا أستعرض معكم بعض الأشياء التى حرصت عليها «أم إخوتى» ويزعجنى جدًا تراجع الاهتمام بها من بعض أمهات هذا الزمان: لا يفتح أحد فمه وهو يمضغ الطعام أو اللبان، لا يصدر صوتاً عند الأكل أو الشرب أو استخدام الملعقة لتقليب الشاى، ولتحقيق ذلك يجب الضغط على الملعقة لتلتصق بمنتصف القاع ويتم التدوير فى حلقات ضيقة، لا مجال للصراخ أو السباب فى معاملات الكرماء، لا يُحتقر إنسان لفقره، كما لا يُقدَّر آخر لِغِنَاهُ أو نفوذه، وإنما لتمسكه بالقيم والفضائل، أداء الواجبات فى الدراسة أو العمل شرف لا يفرط فيه عزيز، احترام القانون والنظام والحفاظ على المرافق العامة سلوك لا يقبل المساومة عليه، الجار قريب أوصى به رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) فَنَعِمْنَا بِجِيرَةِ أُسْرَةٍ مسيحية رائعة الخلق هى أسرة المرحوم يوسف جبرة، نتبادل معهم كعك الأعياد، كما يطفئ كل منا الراديو والتليفزيون مراعاة لأحزان الجار، مفتاحنا لديهم ومفتاحهم لدينا لأى طارئ. أم إخوتى كانت ماهرة فى أعمال المنزل وإعداد العزومات الكبيرة، تجد سعادتها فى خدمة زوجها وأبنائها، وتتأنق مساءً كالأميرات لترافق أبى فى سهرة لأم كلثوم أو حفل استقبال بسفارة أو أمسية شعرية. كان لها صديقات يجتمعن كل أسبوع فى بيت إحداهن ظهرًا لتناول القهوة والحلويات وتبادل أحاديث أرقى كثيرًا من تلك السائدة هذه الأيام، انعكاسًا لتراجع دور الأم التى حلت محلها مؤثرات غير أمينة على تشكيل وجدان الأمة. عشوائيات الفضائيات والإعلام والإنتاج الغنى ومحو التربية من التعليم لعقود متتالية كان لها كلها بالغ الأثر فيما نعانيه. أسرع وأقصر طرق الإصلاح هو عودة الأم.. نريد أن نطبق حكمة أمير الشعراء أحمد شوقى ونعمل ببيته: «الأم مدرسة.. إذا أعددتها/ أعددت شعبًا طيب الأعراق». وحتى تكون «الأم مدرسة» لابد من إعدادها الإعداد العلمى القائم على أحدث نظريات التنمية البشرية والإدارة التى تهتم بتدريب المدربين. فلنحول برامج محو الأمية الموجهة إلى السيدات إلى مزيج من محو الأمية والتربية. أدعو لأم إخوتى بالرحمة، وأقول لحماتى وزوجتى وَكُلِّ أُمٍّ: كل سنة وحضرتك طيبة. [email protected]