كل الفنون تطمح إلى أن تكون موسيقى، فالموسيقى هى الفن الوحيد الذى ينفذ إلى الروح والوجدان والعقل، بوسيط أثيرى لا تستطيع سجنه وتحديده فى مكان محدد، فلا هو كلمة كالشعر، أو لون وظل كالرسم، أو حجر كالنحت، ومن هنا استحقت الموسيقى لقب أرفع وأرقى الفنون. وقد اهتم المفكر الراحل د. فؤاد زكريا بهذا الفن الرفيع، وكان متفرداً فى تناوله للموسيقى فى ثلاثة كتب خصصها للحديث عن هذا الفن فقط، والمدهش أن هذا المفكر العملاق علّم نفسه تذوق الموسيقى الكلاسيكية وقراءة النوتة دون مساعدة من مدرس أو أستاذ، وسبح فى محيط هذا الفن الهادر بقوة عقله الفلسفى المتمرد حتى صار من المفكرين العرب القليلين المتذوقين والمحللين الموسيقى الكلاسيكية الغربية، التى أخلص لها منذ أن كان طالباً فى كلية الآداب حتى وفاته مروراً بفترتى نيويورك والكويت. يؤكد فؤاد زكريا أن الموسيقى فى مصر هى أكثر الفنون تخلفاً، فهى فى محنة حقيقية، فالتأليف الموسيقى فى انحدار، وألحاننا بدائية على وتيرة واحدة ولها بعد واحد يفتقد إلى البوليفونية أو تعدد الأصوات، ومدفونة فى قبر الأغنية ولا تستطيع أن تكون فناً مستقلاً، والعزف فى أزمة، ويكفى أن تستمع إلى عزف منفرد على الكمان من عازف غربى وعازف مصرى لكى تعرف الفرق، أما الأداء الصوتى فلا يستفيد من جميع إمكانيات الحنجرة البشرية، ولا يتعدى طبقة الكلام المعتادة ومرحلة التطريب المملة. تحمس فؤاد زكريا للموسيقى الكلاسيكية الغربية بعد رحلة جهد طويلة وعن اقتناع كامل وليس من باب التحذلق والانبهار بالغرب، واقتنع تماماً بأن من لم يستمع ويتذوق الموسيقى الكلاسيكية فهو مستمع فاته الكثير أو باختصار فاتته الموسيقى الحقيقية، فالاستماع للموسيقى الكلاسيكية تجربة ممتعة ومثيرة، إنك أمام بناء هندسى عظيم ومحكم، هارمونى وانسجام وإيقاع وتركيب أصوات فى ضفيرة أوركسترالية مدهشة لا تتوفر فى الموسيقى الشرقية، مازال «بيتهوفن وفاجنر وموتسارت وباخ» مجهولين بالنسبة لنا، بسبب الكسل والخوف من كسر الألفة والعادة والرعب من الجديد والمختلف، ولابد أن نعرف أن للموسيقى رسالة أخرى غير التسلية العابرة وقتل الوقت.. الموسيقى تثير فينا مشاعر أكمل وأوسع بكثير من شعور الطرب، إنها تجربة عميقة تحض على الخشوع. خريطة إنقاذ الموسيقى فى مصر يلخصها فؤاد زكريا فى كلمة واحدة هى «العلم»، فبالعلم وحده نقضى على الأدعياء، وتختفى كل المهازل الفنية الشائعة فى موسيقانا من سطو باسم الاقتباس، واستجداء لمعونة الغير باسم التوزيع الموسيقى، وجهل باسم الفطرة السليمة، فبالعلم وحده يظهر العازف المجيد، والمغنى البارع، ومن ثم المستمع الواعى.