قال له الملك: «أيها الهزيل ساكن الغابة، أنت تضحك ولا تتبع هذه الأصوات الناحبة، إننا لن نُدخل أظافرنا المقدسة أبدا فى أعضائك الدنسة، فتعالوا يا ذئاب خذوا بثأر الملكة واقتلوا جميعا هذا الخائن من أجل روحها المبجلة». حيئنذ رد الوعل: «مولاى، إن وقت البكاء قد انقضى، والألم الآن لا طائل منه، إن شريكتك الفاضلة قد ظهرت لى فى حلم، وهى مسجاة وسط الزهور، ولقد تعرفت عليها، وقالت لى: أيها الصديق احذر أن يدفعك هذا الموكب إلى البكاء، فلقد حظيت فى رحاب الجنة بشتى أنواع النعيم، إذ تحادثت مع أمثالى من القديسين». ولم ينل «الوعل» أى عقاب بل ظفر بعطاء، رغم أن زوجة الأسد هى من قتلت زوجته وابنه. وهكذا فإن رفّهت عن الملوك بذكر الأحلام، وإن تملقتهم، وإن سُقت إليهم الممتع من الأكاذيب، فمهما كانت قلوبهم مفعمة بالسخط، فسيبتلعون الطعم وستصبح صديقا لهم... هذه قصة «جنازة اللبؤة» للفرنسى «دى لافونتين»، التى تنصرف على صديقنا محل حديث اليوم، فالكاتب «الوعل» لا يستطيع التفرقة بين كرشه وعقله، ويأتى بملابسه الداخلية من خارج البلاد لأسباب خارجة عن إرادته، يجلس حاليا على كرسيه الوثير فى وسط المدينة، يمسك بقلمه فى يد ويضع الأخرى على كرشه البارز، يمسح بيده على البطن الذى امتلأ بفتات النفاق والتمسح بالسلطة، الحال تبدل، فبعد أن كان مقهورا مذموما مدحورا أصبح مثل محظيّات العصور الوسطى وجوارى الرشيد، يتحسس جسده وقلمه ويتعرى يوميا على صفحات جريدته، يخلع أرديته وأسماله البالية ليبرز لأسياده مفاتن تزلفه، يلتمس بكلماته القربى والترقى، ويكتب بمداد الكذب والخداع. يصف سيده بالواقعى ويعتبره القائد الملهم الذى لا يستسلم للأزمات، يظن نفسه النابه الأول بين جوقة المنافقين، فهو يردد فى أحاديثه أن أغلبهم لا يصلحون لكراسيهم، فالعمق والثقافة غائبان. يضبط بوصلته كما يريد سيده، بل ويزيد، فيهز ذيله ويدور ويلهث لرضاء من أجلسه فى مواقع العظام. بعد أن كان يخشاه ويأمن جانبه، لبس رداء الشجاعة ليصفيه معنويا، فقد خرج الرجل القوى من منصبه وفقد سلطته ونفوذه على الكاتب الوعل، الوعل نسى كل شىء وشحذ قلمه وأطلق رصاصات الانتقاد على سيرته التى تبدأ من حمام مكتبه، وصولا إلى ثروته التى كونها خلال المنصب. لا تأمنه فهو يناور ويداور، لذا يتعجب من عرفوه من انقلابه، فمظهره لا يبعث على تجاوزه حدود الأدب وشرف الاختلاف، اختط لنفسه خطا فى الكتابة، ينافس به تجرؤ صديقه المكتنز من الخلف، فالخروج عن السياق أسلوبه، ودفعه الباطل لقراءة الأحداث منهجه، يقتات من الانتصار للقهر وينحى فكرة العدالة جانبا، ليفسح المجال للأكاذيب من عينة القضاء على الفقر بمشروع الألف قرية ومعاشات الضمان الاجتماعى وفرص العمل المليونية وغيرها من أكذوبة البرنامج الانتخابى للرئيس. المتصدى دائما لبحور النفاق، ينسى كثيرا ما يكتبه فى الماضى، فيفقد شراعه وبوصلته، فالكذوب لا يكون ذكوراً طوال الوقت، وصديقنا الوعل خانته الذاكرة لأنه رغب أن يشهر سيفه قبل الآخرين فى وجه منتقدى سيده، امتدح فى مقالاته بعض الشخصيات التى كانت بعيدة عن المشهد السياسى المصرى، لكن عندما اقتربت وأدلت بدلوها فى قضايا مثل الإصلاح وتغيير الدستور أدار ماكينة الشتائم، فمن وصفه بابن مصر البار صار الآن عميلا لأنه تجرأ وتحدث عن إصلاح غائب وشعب مقهور ودولة لا تتوفر فيها أسباب الحياة. قبل أن يفكر بعقله يرغب دائما أن يملأ بطنه، فهو من عاشقى اللحوم والملوخية والموائد والمآدب، يفاخر بحديثه عن الأطعمة واشتهائها، بالقدر الذى ينافس تطاوله على جميع المختلفين مع النظام، ينظر إلى نفسه فى المرآة يوميا، فالكرش يكبر والعقل يَضْمر من الرياء، والكرامة تضيع، والمروءة غابت، ويعيش مثل «الريش» يتحرك حيث يهب الريح، وهو كما يقول الفقهاء «لا نية للرقيق فى كثير من أحواله». [email protected] [email protected]