تصيبني هذه الأيام حالة من الاكتئاب لم اشعر بها من قبل، حالة من الاكتئاب لم أعشها في مصر برغم كل المبررات والدوافع التي ليست فقد قادرة على ان تصيب الانسان باكتئاب حاد بل قد تدفعه احيانا ان يفكر في ان يزيد عدد الرقاب المتدلية من فوق كوبري قصر النيل رغم أنني أعيش في دولة يسودها النظام والعدل والمساواة وإتاحة الفرص للجميع دون تمييز لقرابة أو وساطة أو محسوبية سوى الكفاءة والقدرة على العمل، لكنني أشعر باكتئاب. رغم أنني حين أدخل أي مصلحة حكومية أعامل أحسن معاملة، ويتم إنجاز مصالحي بأسرع وقت وعلى أكمل وجه وبكل التيسيرات المتاحة دون أدنى تعقيدات، وأيضا دون خروج عن القواعد واللوائح، الجميع يضحكون في وجهي ودائما يشكروني لا أعلم لماذا؟ انا صاحب المصلحة لا هم ومع ذلك دائما يشكروني وبرغم هذا فإنني أشعر باكتئاب. رغم أنه من يوم وصلت هذه البلد لم تنقطع الكهرباء دقيقة واحدة، ورغم أنني أسكن في الطابق التاسع فلم أشهد يوما كانت المياه فيه ضعيفة، بل أكثر من ذلك فلم ينقطع عني الإنترنت ثانية واحدة ومع ذلك أشعر باكتئاب. يبدو أنه قدر على أبناء هذا الشعب أن يكونوا دائما مكتئبين داخل وخارج أرض الوطن. نعم أنا مكتئب لأنني لم أستطع لحظة واحدة أن أتغافل عن كوني مواطنا مصريا، ولم أستطع أن أنقطع عن أخبار مصر وأحوالها لحظة واحدة، أضف إلى ذلك أنني لا أستطيع أن أتوقف أبدا عن المقارنة بين الأحوال في مصر ونظيرتها هنا في النرويج في أي موقف من المواقف أو أي مشهد من المشاهد، فعلى سبيل المثال لا الحصر:- 1- في مصر حين تذهب لأي مصلحة حكومية أو غير حكومية يشعرك الموظف بأنه سيدك وأنه يتكرم عليك ليقضي لك مصلحتك، وفي معظم الاحيان يعقد الأمور ويصيبك بتورم في القدمين من كثرة ذهابك وإيابك إلى مكتبه، أما هنا فيشعرك الموظف أنه خادمك، وهو سعيد بذلك ويبذل ما في وسعه كي لا يجعلك تذهب دون قضاء حاجتك. 2- في مصر في معظم المكاتب الحكومية وغير الحكومية تجد أدراج المكاتب مخصصة لتحصيل الإكراميات والعمولات (الرشاوى) كما تخصص بعض الأدراج لتخزين السكر والشاي والنسكافية، هنا تجد كل ركن مخصص لحفظ ملفات وأوراق المواطنين. 3- في مصر تجد معظم المصالح الحكومية والغير حكومية والشركات العامة والخاصة والجامعات يغلب عليها الطابع العائلي، حيث أنك تجد العاملين في شركة من الشركات لا يخرجون عن عائلة أو اثنتين، كذلك بعض الأقسام في بعض الكليات والجامعات والمستشفيات والداخلية والجيش ..إلخ إلا ما رحم ربي، أما هنا فلا توجد مثل هذه التجمعات العائلية في مكان عمل واحد لأن المبدأ السائد هو التعيين على أساس الكفاءة والخبرة دون مرجعية للأسرة أو الديانة أو الجنسية. 4- في مصر ينتشر ضباط ورجال المرور في جميع الشوارع والميادين ومع ذلك تجدها مكتظة ومزدحمة! طبعا كلنا يعرف السبب الرئيسي في انتشار هؤلاء الرجال وعلاقاتهم بسائقي الميكروباصات والسيارات الأجرة وردود أفعالهم تجاه وقوفهم المتكرر في الممنوع لصعود ونزول الركاب إلى جانب اعتراضاتهم المتكررة للسيارات الملاكي بسب وبدون سبب مما يساعد على زيادة تعقيد العملية المرورية! أما هنا فأنني لم أر قط رجل مرور في أي مكان ومع ذلك لايوجد أي زحامات أو اختناقات مرورية. 5- في مصر وحين تركب أي وسيلة مواصلات عامة إن وجدت أو إن استطعت أن تركب فأنك لا تجد سوء معاملة كتلك التي تجدها من سائقي تلك المواصلات، علاوة على بعض المشاحنات والمضايقات من الذين يحيطون بك، أما هنا فأنك تركب مستقبلا بابتسامة السائق وتحيته وتغادر مودعا بهما كما أنك لا تشعر بوجود أحد حولك داخل العربة. 6- في مصر عندما تنظر لعمال النظافة في الشوارع فأنك تشعر بقدر من الشفقة مصاحب بقدر من الاشمئزاز من كثرة مطارداتهم للمارة استجدائا للحصول على بعض الصدقات غير معيرين اهتماما لمهمتهم الأساسية كعمال نظافة، ورغم كثرتهم في كل مكان فأنك لاتجد أقذر من شوارعنا في مصر، أما هنا فعندما تنظر لعمال النظافة فأنك تشعر بسعادة لاتعرف لها مصدر فمعظمهم من الشباب والبنات متوسطي العمر، حينما تراهم لا تستطيع أن تفرق بينهم وبين أي طبقة أخرى من طبقات المجتمع، ومع ندرة وجودهم إلا أنك لا تجد ذرة تراب في أي مكان. 7- في مصر تجد التهاون بأرواح الناس يصل إلى أقصاه، فإنك لاتجد الشرطة تصل إلى مكان إطلاق نيران في أحد الأماكن إلابعد أكثر من ثلاث ساعات وتصل سيارات إطفاء الحرائق (إن استطاعت أن تصل) إلى أماكن الحرائق بعد اندلاعها بأكثر من ساعتين كفيلتين بتفحم جميع من في موقع الحريق، قس على ذلك أيضا سيارات الإسعاف، أما هنا فلا تستغرق سياراة إطفاء الحرائق أكثر من 5 دقائق للوصول إلى إحدى الابنية لمجرد أن شاب دخن سيجارة في مكان مغلق غير مخصص للتدخين (هذه الواقعة رأيتها بعيني) أرئيتم مدى الاهتمام بأروح الناس. 8- في مصر تجد الناس يعيشون في ضنك وفي أسوء حال، يئنون من الزحام والحر وشدة التعب جراء لقمة العيش، يقضون نصف يومهم بلا كهرباء ولا ماء في أيام الشهر المبارك، وعندما يشتكون يخرج عليهم رجال الحكومة والمسئولين باللوم والتئنيب بأنهم شعب مبذر ومهمل ومقصر ولايقدر النعمة التي أنعم الله عليهم بها (الحكومة طبعا)، يتهمون الشعب بالإسراف في استخدام الإنارات والأجهزة الكهربائية والمكيفات، في حين أنهم يسمحون بدخولها للأسواق بكميات كبيرة وأعداد ضحمة! ويخرج علينا رئيس الوزراء متعللا بأن كثرة شرائنا لهذه الاجهزة دليلا على زيادة معدلات النمو القتصادي في مصر (فلا نعرف هل نشتري أم لا !!)، أما هنا فيعيش الجميع في رفاهية متناهية في كافة المجالات ومع ذلك فعندما يتعطل الترام لبعض الدقائق تجد المسئولين يتسارعون لتقديم الاعتذارات للناس رغم أن الناس لم يبدوا تذمرهم أوغضبهم أصلا. 9- في مصر يزداد الأغنياء غنى بلا عمل ويزداد الفقراء فقرا رغم كثرة العمل، أما هنا فيرتقي حال الفرد بمقدار جهده وعمله. 10- في مصر تتشكل الحكومة بنسبة 100% من الحزب الوطني الديمقراطي (الغير وطني والغير ديمقراطي) ويأتي الحزب بأغلبية ساحقة في البرلمان تزيد عن ال80%، أما هنا تتشكل الحكومة من ثلاثة أحزاب تقريبا يأتي أكثرهم إستحواذا على مقاعد في البرلمان بنسبة 37% ويأتي أقرب منافسيه مستحوذا على 24 % من مقاعد البرلمان. 11- في مصر تعيش الوزارات في جزر منعزلة عن بعضها البعض ولا يوجد أي تنسيق أو نوع من أنواع العمل المشترك، بل أكثر من ذلك تختلف الوزارات مع بعضها البعض (المالية مع الصحة والكهرباء مع البترول والثقافة مع الداخلية ..إلخ)، أما هنا فتجد الحكومة وكأنها آلة تعمل على خدمة الوطن والمواطنين، تمثل الوزارات وأجهزة الحكومة تروس تلك الآلة التي تتناغم مع بعضها البعض للوصول لأعلى معدلات الكفاءة والإنتاج. 12- في مصر تعيش أجواء سياسية غامضة تتخللها بعض المسرحيات والتمثيليات الهزلية يلعب أدوارها الإعلام بمختلف أطيافه (المرئي والمسموع والمقروء)، كما تظهر على المسرح بعض الوجوه الجديدة التي تبث حالة من الاشمئزاز في النفس متمثلة في بعض الجمعيات والحملات الشعبية لتأييد فلان ونظيراتها المضادة، وجميع هذه الأطراف تدار بحكمة وحنكة متناهية الدقة من جانب أجهزة معنية تسيطر على مقاليد الأمور جيدا، والهدف طبعا من وراء كل هذه المسرحيات والتمثيليات هو تهيئة وتجهيز الراي العام لتقبل السيناريو المتفق عليه لانتقال السلطة في مصر من الحزب الوطني للحزب الوطني!، أما هنا فالشعب هو مقرر مصيره من خلال انتخابات برلمانية نزيهة تؤدي إلى إفراز برلمان يعبر عن إرادة الشعب ويعمل على تشكيل حكومة تخدم الشعب والوطن في المقام الأول والاخير. كل هذه الأسباب وأكثر لايستطيع الذهن أن يغفل عنها أو يتجاهلها وهذا هو ما يجعلني أشعر بالاكتئاب. وفي النهاية لا يسعني غير أن أدعو الله أن يفرج عن مصر كربتها ولا أدعو أن يفرج عن المصريين لانهم يستحقون ما هم فيه وأكثر (غير مستثنيا نفسي طبعا فأنا واحد منهم)، جراء تخاذلهم وتهاونهم في حقوقهم وخضوعهم وخنوعهم وتدني أخلاقهم وطباعهم إلا من رحم ربي.