الرحلة كانت حزنا كلها، فقد الرسول سنده المادى بوفاة أبى طالب، وسنده المعنوى بوفاة خديجة. وتجمدت الدعوة فى مكة وتزايد أذى المشركين. ستون ميلا كاملة مشاها الرسول على قدميه على الرمال الساخنة ذهابا وإيابا. الصحراء موحشة وفى صدره وحشة أكبر منها، والجبال كبيرة وفى قلبه حزن أكبر منها، والحر شديد وحرارة التنهيدة فى أنفاسه تذيب الحديد. وكلما مر على قبيلة عرض عليها الإسلام فلا تستجيب، حتى انتهى إلى الطائف فعرض الإسلام على رؤوسها فسخروا منه وردوه خائبا. ولم ييأس الرسول. عشرة أيام مكثها بين أهل الطائف، لا يدع أحدا إلا عرض عليه الإسلام، وهم يردونه ويطردونه، قالوا لأكرم الخلق: «اخرج من بلادنا». لم يعرفوا شرفه ومكانته أو يحفظوا حرمة الضيف، وأن الأرض لله يورثها من يشاء. وانتهى الأمر بهذا المشهد المؤسف: صفان من السفهاء والصبيان يسير بينهما الرسول وهم يسبونه ويرجمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه وامتلأ نعله بالدماء، حتى ألجأوه إلى حديقة يحتمى بها. موقف إنسانى عصيب لا يحتاج -كى تتعاطف معه- أن تكون مسلما. ولا عجب أن السيدة عائشة ستسأل الرسول فيما بعد: هل مر بك يوم أشد من يوم أُحد؟ فيذكر لها ذلك اليوم. يخرج إلى الصحراء الواسعة مكسور الخاطر خائب الرجاء. يرفع كفيه إلى السماء ضارعا وقد امتلأت عيناه بالدموع. ويدعو دعاءه المشهور: «اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى، إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى؟ أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى. ولكن عافيتك هى أوسع لى. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الأولى والآخرة من أن تُنزل بى غضبك أو يحل سخطك، لك العُتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك». كلمات تشى بحالته النفسية المحزنة، دهشته مما يحدث، لهفته لنشر الإسلام، وأدبه العالى مع ربه (إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى) وقصارى ما يتمناه عدم الغضب، وإيثاره العافية رغم تحمله المشقة (ولكن عافيتك هى أوسع لى)، كلمات تفيض بإشراق النبوة وأدب العبودية. ستترتب على رحلة الطائف أحداث مهمة: رحلة الإسراء والمعراج التى فُُرضت فيها الصلاة، ولسان حالها يقول: «إذا كان أهل الأرض لا يقدرونك يا محمد، فملأ السماء ينتظرونك ويعرفون فضلك». هناك موقف آخر عظيم الدلالة لكنه تاه فى زحام الأحداث: حينما اقترب الرسول من مكة فإنه مكث خارجها لا يستطيع دخولها حتى أجاره (المطعم بن عدى) وكان مشركا. ويبقى السؤال المهم: لماذا لم يدخل الرسول مكة مباشرة (وربه يحميه)؟ وما دلالة انتظاره حتى يدخلها فى حماية مشرك؟ أحاول الإجابة غدا إن شاء الله. [email protected]