تابعت مثل كل المصريين فضيحة سرقة لوحة «فان جوخ» من متحف «محمد محمود خليل وحرمه» وفكرت أن ما يحدث هو مجاز لمصر نفسها. نفس الانتهاك والاستباحة، نفس الغيبوبة، نفس غياب التعلم من الأخطاء ونفس الدور الذى يلعبه المسؤول الكبير عندما يضحى بأحد المسؤولين فداء للكرسى الذى التصق به فلم يعد يحيا بدونه. كنت أعى أن أذرع أخطبوط شرس تتشكل من التفاصيل القبيحة تلتف حولى فأكاد أختنق، أعرف أن الأخطبوط سيقودنى إلى عتمة الاكتئاب، أراه يقترب لكننى حزينة جدا ومرهقة وبلا طاقة للمقاومة. وبينما أذرع الأخطبوط تكبر وتقترب منى أكثر جاءتنى صور وجوههم السمراء الصغيرة، الابتسامات، النكات التى ترددت فى أرجاء المكتبة، جاءتنى صور مجموعة الأطفال الذين شاركوا فى ورشة كتابة إبداعية تحت إشراف زميلتى د. سهى رأفت وإشرافى، وهم مى وإسراء وخلود وأحمد ومحمود وإسلام ونورهان وأسماء وشيرين وريهام ومحمد وياسمين ورحاب وسلمى وآية، سمعت ضحكاتكم وأسئلتهم ورأيت رؤوسهم الصغيرة المنحنية فوق الأوراق، كانوا يعيدون كتابة حكايات «سندريلّا» و«علاء الدين والمصباح السحرى». عادت إلىّ أيام الورشة الخمسة مع أطفال جمعية «ألوان وأوتار» المهتمة بالتنمية الثقافية والفنية للأطفال والشباب فى المقطم. (وكانت ورشتنا واحدة من بين ورش عمل عديدة فى الموسيقى والكتابة والمسرح دأبت الجمعية على تقديمها للشباب والأطفال منذ عام 2005). عادت إلىّ كل السندريلّات الجديدات التى كتبها الأطفال. فواحدة منهن لم تعجبها أنانية الأمير الذى تنحصر أحلامه كلها فى الثروة والمتعة الشخصية ولا يدرى عن وجود فقراء فى مملكته، ولذا عندما تسمع دقات منتصف الليل تجرى هاربة منه. وسندريلّا أخرى يقرر الأمير الارتباط بها بعد أن يسأل كل الفتيات الجميلات فى الحفل من أين أتين بفساتينهن ويجد أنها الوحيدة التى صنعت فستانها بيديها من قماش الستائر ثم طرزته بنفسها. كما تصور الأطفال فى كتاباتهم حياة علاء الدين مع ياسمين بعد الزواج. منهم من رأى علاء الدين يطلب من ياسمين أن تلجأ إلى الجنىّ للقيام بالمطلوب محاولا التنصل من مسؤولياته، لكنها تذكره أنه أطلق سراحه ولم يعد هناك من يتكئ عليه. ومنهم من رآه مهووسا بمتابعة مباريات الكرة. عادت إلىّ المناقشات أثناء الورشة، الأسئلة والأفكار التى طرحها الأطفال، وأدركت مع بزوغ صورهم بهذا الوضوح أن التغيير يأتى من جذور الشجرة وليس من فروعها الأعلى، وأن صلابة البنية التحتية لمجتمع ما تنبع من ضخ ثقافة حقيقية وطازجة ومحفزة لتغيير الوعى فى شرايين الإنسان نفسه. فى هذه اللحظة من تاريخنا لا رجاء فى المؤسسات الهشة الكسيحة المتمرسة فى المراوغة والهروب من تحمل المسؤولية. الرجاء كله فى المجتمع المدنى، فينا كأفراد وفى أطفال مصر القادرين على الحلم وعلى إعادة كتابة حكاياتهم ورسم نهايات مختلفة، نهايات أكثر إنسانية وأكثر عدلا من تلك التى يرونها كل يوم على صفحات الجرائد. فى «مكان» (بجوار ضريح سعد زغلول) يوم الخميس 2 سبتمبر (9 مساء) سيحكى أطفال جمعية «ألوان وأوتار» حكايات نسجوها بخيط من واقع حياتهم وخيط من خيال، وسيؤكدون مجددا أن الأمل ملكنا وأن الفعل مصدره نحن وليس أى كيان خارجنا، وأن الأمل والفعل هما السلاح الأمثل للانتصار على أخطبوط التفاصيل الموجعة.