فى كل مهنة أو تجمّع، نكات ونوادر وتشنّعات خاصة بأهل المهنة. وهذه القصة عن أشهر الجامعات الأجنبية. اجتمع مجموعة من طلاب التخصصات العلمية بجامعة هارفارد فى مطعم، واكتشفوا مع مجىء السلطات أن الملح موجود فى علبة الفلفل، والفلفل موجود فى علبة الملح. فتباروا لإصلاح الوضع، وتنافسوا على من ينقل الملح والفلفل فى علبتيهما دون أن يفقد ذرة منه. أخرج كل منهم ورقة وقلمًا لإجراء الحسابات والمعادلات. وأثناء ذلك، أتت النادلة بالأطباق الرئيسية، ولاحظت الأوراق والرسومات، فشرح أحدهم لها المشكلة العويصة. لم تعلق النادلة، وقامت بتغيير غطاء العلبتين لأن الاسم كان على الغطاء. أحيانًا يكون الحل أبسط من كل الأفكار والتحليلات المعقدة. فبعد حريق سنترال رمسيس وتوابعه، ثم مجموعة من الحرائق المتفرقة، ظهرت التحليلات والتفسيرات المضادة. هناك مؤامرة ضد مصر، ومن ينتقد تكرار الحوادث ينفذ مؤامرة أخرى. وكثرة الحرائق كاشفة لأحداث أعظم فى المستقبل القريب. ومع احترامى لكل التحليلات، فلدَيّ بعض الملاحظات على طريقة النادلة: (1) كان موسم الحرائق فى شهرَى 8 و9، الأشد حرارة فى مصر، ولكن تغيّرات المناخ رفعت درجة الحرارة فى مصر وجعلت الصيف الحار يبدأ من شهر 5 وربما شهر 4. وهكذا أصبحنا فى مرمى الحرائق نتيجة ارتفاع درجات الحرارة والضغط على التكييفات منذ عدة أشهر، وهذا وحده سبب كافٍ وبسيط لاشتعال الحرائق. (2) أعتقد أن الأزمة المالية الضاغطة على موازنة الدولة قد تختصر بنودًا تبدو غير عاجلة مثل الصيانة. وهذا التصرف تراث حكومى بيروقراطى، وحتى على المستوى الشخصى، فالصيانة أول بند يتم تخفيضه. (3) حكاية المؤامرة فى مواجهة كل كارثة أو مشكلة أصبحت مثل النكتة البايخة، ليس لأننى لا أؤمن بوجود مؤامرة على مصر، بل لأن هذه الأخطاء أو بالأحرى الخطايا صناعة ذاتية تمامًا. (4) إن خطورة الارتهان لفكرة المؤامرة تُشل حركة المجتمع فى مواجهة الأخطاء التى يمكن معالجتها بمراجعة بند الصيانة وزيادته فى كل المؤسسات الحكومية. (5) استثناءً من كل الحرائق الصغيرة والكبيرة، فإن حريق سنترال رمسيس له خصوصية ودلالة. فمصر لديها قرية ذكية فى أكتوبر، ومبانٍ رسمية فى العاصمة الإدارية، وكان يجب نقل قلب الاتصالات إلى أىٍ منهما مع توفير بدائل لنقل الداتا آليًا بمجرد توقف المركز الأساسى. (6) رغم فداحة أضرار حريق سنترال رمسيس، إلا أن الحكومة الشاطرة هى التى تحول الكوارث إلى نقطة انطلاق للطريق الصحيح. كنت أتوقع أن يذهب وزير الاتصالات لمجلس النواب بخطة عاجلة لنقل قلب اتصالات مصر إلى مكان آخر أكثر أمانًا وتجهيزًا، مع تحديث يضمن تشغيل البديل فور حدوث أى حادثة. (7) مع الأسف، الحكومة ببعض وزرائها تعطى انطباعًا سيئًا فى مثل هذه الحوادث، مع بعض من الشعور بالتفوّق الخرافى، والنفور من أى انتقاد، وكأننا يجب أن نسجد شكرًا لله أنه وهبنا هذه الحكومة أو ذاك الوزير. (8) للمرة المليون: مصر دولة كبيرة عريقة ذات بيروقراطية عميقة، بالمعنى الإيجابى للبيروقراطية، رغم كل التحديات والصعوبات. وحكاية أن النقد أو التعبير عن الغضب يهز الدولة إساءة لمصر وحجمها ومكانتها. وأتذكر أن بعض المحللين بعد محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا أشاعوا نظرية أن دولة عربية تلعب فى أمن مصر، فردّ عليهم الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل بأن القول إن دولة صغيرة تهدد مصر إساءة لمصر ومكانتها. (9) استمرار حالة الاستقطاب الحاد فى مجتمع النخبة أخطر من أى حريق أو مصيبة. يا أهل الخير، نحن لا نخوض مباراة والمطلوب إحراز أهداف أكثر فى مرمى الآخر. المطلوب أن نستمع لبعضنا البعض بروح المواطنة والبعد عن التخوين، فرب معارض يفيد النظام بفكرة أو رأى أو ينبه لخطر، وبذلك يكون هذا المعارض أكثر أهمية من المناصر الذى يبرر الأخطاء ويخدّر المجتمع عن مشاكله والمخاطر المحتملة. (10) وأخيرًا، للإخوة الذين سارعوا بمقارنة كارثة سنترال رمسيس بانقطاع الكهرباء عن مناطق كبرى بثلاث دول أوروبية، فاتهم أن المشكلة كانت خارج نطاق الحكومات. وبالمناسبة، لماذا لا يقارن هؤلاء بالخدمات المقدمة للمواطن الأوروبى ومستوى الدخل ومواجهة الطوارئ؟ (11) أتمنى أن نذكر دومًا الحكمة الرائعة: اللهم احمنى من أصدقائى، أما أعدائى فأنا أولى بهم.