تتدافع الأزمات فى مصر واحدة تلو الأخرى لكى تضع البلاد والعباد قبل أيام من الذكرى الأولى لخلع رئيس النظام السابق أمام احتمالات حقيقية خطيرة لتدهور يصعب على أحد توقع ملامحه الكاملة. ويبدو واضحاً أنه وراء هذا التدهور المتوالى تكمن مجموعة من التصورات والإدراكات من فئات واسعة من المصريين تجاه ما يحدث فى بلادهم، وهى ليست كلها بالضرورة حقيقية أو دقيقة لكنها فى كل الأحوال هى التى تسيطر عليهم وتحرك أفعالهم وردود أفعالهم. وفى السياسة، علماً وحركة، يكون تصور الناس وإدراكهم ما يجرى من وقائع هو الأهم من الوقائع نفسها، وهو الأولى بالرعاية من السياسيين وأحزابهم وقواهم، إلى أن يتم تغييره ليكون متطابقاً مع الوقائع والحقائق. ومن هنا فلا يجب على السياسى الناجح أو الراغب فى النجاح إلا أن يتعامل مع هذه التصورات والإدراكات باعتبارها حقائق «مؤقتة» يسعى لتغييرها لتكون متطابقة مع الوقائع الفعلية. وأبرز التصورات والإدراكات التى تشيع بين المصريين خلال الشهور الأخيرة أن أحوال البلاد منذ ثورة 25 يناير، وخلال عامها الأول، لم تتغير إلى الأفضل بل ساءت كثيراً عما قبل على مختلف الأصعدة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية. ويذهب البعض بعيداً فى تصوراتهم لكى يروا أن الثورة لم تحقق شيئاً تقريباً على صعيد هدم نظام «مبارك»، فهو بالنسبة لهم لا يزال قائماً، وممارساته انتقلت إلى المجلس العسكرى الذى يدير البلاد بصورة لا تختلف عن مبارك كثيراً، وربما تكون أسوأ منه فى بعض الحالات. كذلك فإن نظرية المؤامرة فيما يخص أداء المجلس العسكرى وقطاعات الثوار والأحزاب السياسية، وخصوصاً الإسلامية منها، تسيطر على قطاعات واسعة من المصريين الذين لا يرون فى تصرفاتها أو توافقاتها أو اختلافاتها سوى تحركات تآمرية تقوم على مصالح ضيقة أو «أجندات» خاصة بكل طرف منها. أما عن المستقبل القريب أو البعيد للبلاد بعد ثورتها، فإن التصور الأكثر شيوعاً هو أنه لن يكون أفضل كثيراً من الحاضر القلق المضطرب، وأن مصير الثورة لن يكون على الأرجح إيجابياً. أشاعت هذه التصورات والإدراكات، بغض النظر عن دقتها ومطابقتها الواقع الحقيقى، مناخاً من التشاؤم والقلق والخوف بين عموم المصريين، وبخاصة فى الأسابيع الأخيرة التى شهدت سلسلة هجمات جنائية متعمدة ومنظمة ومذبحة بورسعيد الغادرة وصدامات جديدة بين الشباب المصرى وقوات الأمن. وبدا واضحاً من سلوك ورد فعل عدد من القوى السياسية والحزبية وغالبية وسائل الإعلام أنها راحت تتعامل مع هذه التصورات والإدراكات والمشاعر باعتبارها حقائق ثابتة لا يجب المساس بها، بل على العكس يجب تنميتها وتضخيمها وأحياناً استخدامها فى الصراع السياسى وأحياناً الشخصى مع الخصوم. إن تخلى هذه القوى السياسية والحزبية والوسائل الإعلامية عن دورها الطبيعى فى التعامل مع تلك التصورات والإدراكات الشعبية باعتبارها حقائق «مؤقتة» يجب عليها السعى لتغييرها لتكون متطابقة مع الواقع الفعلى - يعنى ليس فقط أنها تستثمرها لغير صالح البلاد بل يعنى أيضاً أنها فشلت فى أداء مهمتها الرئيسية فى تغيير الوعى مع تغيير الواقع. لا يستطيع أحد أن يدّعى أن أحوال مصر بعد عام من ثورتها العظيمة هى أفضل ما يمكن، ولكن أحداً أيضاً لا يستطيع أن يخالف الواقع الحقيقى الذى يؤكد أننا قطعنا الشوط الأكبر فى هدم النظام الفاسد المستبد والبدء، فى بناء النظام الجديد، ويشيع أننا لم ننجز شيئاً وأننا عدنا لنقطة البدء وأننا بحاجة لثورة جديدة. ثورتنا حدثت بالفعل، ويبقى فقط أن ندفعها فى مسارها الطبيعى نحو إعادة البناء، وأن نحافظ عليها من التصورات والإدراكات الخاطئة وقبلها من التصرفات التى تولدها. [email protected]