على الرغم من الحقائق الاقتصادية الراسخة التى تؤكد أن الإفراط فى اللجوء إلى سياسات التوسّع فى فرض التعريفات الجمركية وتشديد القيود الحمائية يمكن أن يؤدى إلى نتائج سلبية، لاتزال هذه السياسات تحظى باهتمام بعض الحكومات، خاصة عندما يكون الهدف منها حماية الصناعات المحلية أو معالجة العجز فى الميزان التجارى. ففى العديد من الحالات، تؤدى تلك السياسات إلى ارتفاع الأسعار نتيجة لحماية صناعات تفتقر إلى الجدوى أو الكفاءة الاقتصادية، ويضاف إلى ذلك احتمال تسبّبها فى ردود فعل من الدول المتضررة، قد تشمل فرض إجراءات انتقامية مماثلة، بما يضر بالعلاقات التجارية الدولية. والأسوأ من ذلك، فإن استمرار هذه السياسات يمكن أن يؤدى إلى تباطؤ نمو الاقتصادى العالمى وتراجع فرص التجارة، وذلك على غرار ما شهده العالم خلال فترة «الكساد الكبير» فى ثلاثينيات القرن الماضى، عندما أسهمت السياسات الحمائية فى تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية. ومع تصاعد النزاعات التجارية بين الشركاء التجاريين الرئيسيين على مستوى العالم، خاصة بين الولاياتالمتحدةوالصين، تبرز الحروب التجارية كأحد أخطر التهديدات التى تواجه الاقتصاد العالمى. وبينما تتركز الأنظار على تأثير هذه الحروب على الاقتصادات الكبرى، تغيب عن المشهد التداعيات المحتملة التى قد تطال اقتصادات الدول النامية، والتى غالبًا ما تكون الخاسر الأكبر فى مثل هذه النزاعات. ففى تقريره الصادر فى إبريل الجارى حول آفاق الاقتصاد العالمى، حذّر صندوق النقد الدولى من التأثيرات الواسعة للحرب التجارية الجارية، مشيرًا إلى أنها تُشكّل ضغوطًا إضافية على النمو العالمى، وتفاقم من التحديات التى تواجه الاقتصادات الناشئة والنامية. ولهذا السبب، خفّض الصندوق توقعاته للنمو فى هذه الدول، متوقعًا تباطؤًا فى الأداء الاقتصادى نتيجة ارتفاع الرسوم الجمركية، وتقلبات الأسواق، وعدم استقرار أسعار الصرف، وتراجع الطلب العالمى. وفى هذا السياق، يبرز التحدى الأكبر للدول النامية، حيث يتعين عليها اتباع ما يُعرف بسياسه «التحوط المزدوج»، أى الحفاظ على العلاقات مع كل من الصينوالولاياتالمتحدة دون انحياز لأىٍّ منهما، إذ لا تملك الدول النامية ترف خسارة أى من الطرفين، نظرًا لاعتمادها الكبير على التجارة معهما. فمن ناحية، تمثل الصين سوقًا ضخمة للعديد من المنتجات التى تنتجها وتصدرها الدول النامية، كما أنها تمثل مصدرًا مهمًا للعديد من وارداتها، وهو ما ينطبق أيضًا على الولاياتالمتحدةالأمريكية، إذ تُشكل التجارة الدولية شريانًا حيويًا لاقتصادات الدول النامية، التى تعتمد بشكل كبير على تصدير المواد الخام والسلع الوسيطة مثل البترول والمعادن والمنتجات الزراعية. لذا، فإن اندلاع حرب تجارية بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر فى العالم من شأنه أن يؤدى إلى تراجع الطلب العالمى على هذه المنتجات. فعلى سبيل المثال، أى انخفاض فى واردات الصين من المعادن نتيجة لانكماش صادراتها إلى الولاياتالمتحدة، سينعكس سلبًا على الدول المصدرة للنحاس أو الحديد. كما أن تباطؤ الاقتصاد العالمى عمومًا يهدد بتقليص الطلب على موارد الطاقة والمواد الأولية الأخرى، أخذًا فى الاعتبار الأزمات المتفاقمة التى تواجه الاقتصاد الصينى حاليًا، نظرًا لتصاعد الرسوم الجمركية الأمريكية على صادراته، وأزمة القطاع العقارى، وارتفاع مستويات الدين الحكومى، وضعف الإنفاق المحلى، وهى عوامل مجتمعة قد تترك أثرًا عميقًا على معدل نمو الاقتصاد الصينى، وبالتالى على شركائه من الدول النامية. وبالتوازى مع الحرب التجارية الأمريكية مع الصين، فإن الدول النامية ستتأثر أيضًا من التعريفات التى فرضها الرئيس ترامب على منتجاتها، وبالتالى فإن صادراتها ستواجه قيودًا حمائية على إمكانية نفاذها إلى السوق الأمريكية، حيث قامت الإدارة الأمريكية بمراجعة برنامج النظام المعمم للأفضليات (GSP)، وهو البرنامج الذى يسمح للعديد من الدول النامية بتصدير سلع إلى الولاياتالمتحدة دون رسوم جمركية، خاصة أن الأمر لا يقتصر على الدول النامية فقط، ومنها الهندوالبرازيل وتركيا ومصر، والتى تم رفع التعريفات على صادراتها بنسبة 26٪ بالنسبة للهند، و10٪ بالنسبة لكل من البرازيل وتركيا ومصر، بل ستمتد إلى منتجات الدول الأقل نموًا LDCs، ومنها مدغشقر ولاوس وسيريلانكا وكمبوديا وبنجلاديش وبتسوانا وليسوتو، حيث تم رفع التعريفات على صادراتها بنسب تتراوح بين 50٪ بالنسبة لليسوتو، و49٪ بالنسبة لكمبوديا، و48٪ بالنسبة للاوس، و47٪ بالنسبة لمدغشقر، و44٪ بالنسبة لسيريلانكا، و37٪ بالنسبة لكل من بتسوانا وبنجلاديش. ومن المتوقع أن تتأثر أيضًا الدول النامية التى تلعب دورًا محوريًا فى سلاسل التوريد العالمية المرتبطة بالصين بتفكك هذه السلاسل أو إعادة توجيهها بفعل الرسوم الجمركية، خاصة فى قطاعات مثل الإلكترونيات والنسيج والملابس الجاهزة، إذ قد تجد هذه الدول نفسها فى مواجهة تقلبات مفاجئة تؤثر على تدفق الاستثمارات، ومستويات الإنتاج، وفرص العمل، أخذًا فى الاعتبار أن الرسوم الجمركية لا تؤثر فقط على الصادرات، بل تمتد آثارها إلى الواردات أيضًا، خاصة بالنسبة للدول النامية التى تعتمد على استيراد السلع الرأسمالية والتجهيزات الصناعية. فارتفاع تكلفة هذه المنتجات قد يؤدى إلى موجة تضخمية تؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين، مما يضاعف من الأعباء الاقتصادية على هذه الدول، أخذًا فى الاعتبار أنه من المتوقع أن تبدأ الشركات الأمريكية فى نقل بعض خطوط إنتاجها من الصين إلى دول أخرى، مثل فيتنام والمكسيك والهند، فى حين ستزيد الشركات الصينية من توجهها إلى أسواق دول إفريقيا وجنوب شرق آسيا، وذلك بهدف تقليل المخاطر وخفض نفقات الإنتاج وتجنب الرسوم التعريفية المفروضة. ورغم الحديث المتزايد عن التداعيات السلبية للحرب التجارية الأمريكية مع الصين على اقتصادات الدول النامية، فإن هذه التطورات لا تخلو من فرص واعدة. فإعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية وتحوّلات أنماط الاستثمار الأجنبى المباشر قد تفتح آفاقًا جديدة أمام عدد من الدول النامية لاستقطاب المزيد من الاستثمارات، فى ظل سعى الشركات الأجنبية إلى تنويع مواقع الإنتاج وتقليل اعتمادها على الصين. وتُحتّم هذه المتغيرات على الدول النامية أن تعمل على تعزيز قدرتها التنافسية من خلال توفير بيئة استثمارية مستقرة، وتطوير البنية التحتية، وتبنى سياسات اقتصادية مرنة وجاذبه، وقد أظهرت تجارب دول مثل فيتنام وبنجلاديش إمكانية الاستفادة من هذا التحول خاصة فى قطاعات كالإلكترونيات والمنسوجات والملابس الجاهزة، كما أعلنت شركة «أبل» نقل خطوط تجميع وإنتاج هواتفها المحمولة من الصين إلى الهند، ومع ذلك، فإن تعظيم الاستفادة من هذه الفرص يتطلب رؤية استراتيجية طويلة المدى، تركز على تحقيق اندماج مستدام فى سلاسل التوريد العالمية، والتكيف مع التحولات الجارية فى مراكز الإنتاج التى شكلت ركيزة للعولمة خلال العقود الماضية.