في مكان بعيد عن أعين البشر، حيث الظلام الدامس والضغط الهائل، عثر علماء المحيطات على برك ملحية قاتلة في أعماق البحر الأحمر، لا تسمح لأي كائن بحري بالبقاء على قيد الحياة داخلها. هذه البرك، التي تقع على عمق 4000 قدم تقريبًا في خليج العقبة، تحتوي على مياه أكثر ملوحة بعشر مرات من مياه البحر العادية، مما يجعلها بيئة لا تحتملها معظم الكائنات الحية، باستثناء بعض الميكروبات المتطرفة القادرة على التأقلم مع أقسى الظروف. وفقًا لموقع National Geographic، فإن برك المياه المالحة في أعماق البحر الأحمر توفر نموذجًا طبيعيًا فريدًا لدراسة الحياة في البيئات القاسية. فعلى الرغم من افتقار هذه البرك للأكسجين ومستويات الملوحة العالية التي تتسبب في قتل معظم الكائنات البحرية التي تدخلها، إلا أنها تدعم أنظمة بيئية ميكروبية متكيفة بشكل مذهل. يشير التقرير إلى أن بعض الميكروبات التي تعيش هناك قادرة على استخدام الكبريت والهيدروجين للحصول على الطاقة بدلًا من الأكسجين، مما يعكس كيف يمكن أن تتكيف الحياة في بيئات أخرى خارج الأرض. بحيرات الموت تحت الماء.. كيف تشكلت؟ وفي تقرير بالموقع العلمي «Interesting Engineering»، اشار أن هذه البرك تظهر نتيجة تسرب المياه المالحة من قاع البحر، مما يجعلها معزولة تمامًا عن المحيط المحيط بها، حيث تستقر دون أن تختلط بسهولة مع المياه الأخرى بسبب كثافتها العالية. ورغم ندرة هذه الظاهرة، فقد تم حتى الآن اكتشاف 40 بركة مماثلة فقط حول العالم، موزعة بين البحر الأحمر، البحر الأبيض المتوسط، وخليج المكسيك، مما يجعل هذا الاكتشاف إضافة علمية هامة إلى عالم المحيطات الغامض، بحسب مجلة «Nature». لماذا تسمى برك الموت يطلق على هذه البرك اسم «برك الموت» بسبب الظروف البيئية القاسية داخلها، والتي تجعلها قاتلة لأي كائن بحري يدخلها. وإليك الأسباب الرئيسية وراء هذه التسمية: 1. انعدام الأكسجين * تحتوي هذه البرك على مستويات منخفضة جدًا أو منعدمة من الأكسجين، مما يعني أن الكائنات البحرية التي تعتمد على التنفس بالأكسجين لا تستطيع البقاء على قيد الحياة داخلها. * بمجرد أن تدخل الأسماك أو القشريات هذه البرك، فإنها تموت اختناقًا خلال دقائق. 2. ملوحة عالية جدًا * الملوحة في هذه البرك تفوق بعشر مرات ملوحة مياه البحر العادية، مما يجعلها وسطًا سامًا للكائنات البحرية. * هذه البيئة تؤدي إلى خلل في توازن الماء داخل أجسام الكائنات الحية، مما يتسبب في جفافها سريعًا وموتها بسبب فقدان السوائل. 3. وجود مركبات سامة * هذه البرك تحتوي على تركيزات عالية من المعادن والمواد الكيميائية السامة، مثل الكبريتيد والهيدروجين، مما يجعلها بيئة غير صالحة للحياة. * هذه المركبات قد تكون قاتلة للكائنات البحرية بمجرد تعرضها لها، حيث تؤثر على جهازها العصبي وتمنعها من التنفس. 4. عدم اختلاطها بالمياه المحيطة * بسبب كثافتها العالية، فإن هذه البرك تبقى منعزلة عن المياه المحيطة بها، مما يمنع أي تجدد للأكسجين أو تخفيف لملوحتها، وبالتالي تبقى بيئة قاتلة لأي كائن يقترب منها. 5. ظاهرة «الفخ القاتل» * الكائنات البحرية التي تسبح فوق هذه البرك قد تنجذب إلى الفروق اللونية الناتجة عن اختلاف كثافة المياه، ولكن بمجرد أن تغوص داخلها، تصبح غير قادرة على الخروج بسبب التغير المفاجئ في الملوحة والأكسجين. * نتيجة لذلك، تصبح هذه البرك مصيدة قاتلة تبتلع كل من يدخلها. لكن.. هناك حياة في برك الموت! * رغم الظروف القاسية، وجد العلماء أن بعض الميكروبات المتطرفة قادرة على العيش داخل هذه البرك. * هذه الميكروبات لا تحتاج إلى الأكسجين، بل تعتمد على الكبريت أو الميثان للحصول على الطاقة، مما يجعلها نموذجًا للحياة التي قد توجد في البيئات القاسية على كواكب أخرى. كبسولات زمنية تحفظ أسرار الماضي يرى العلماء أن هذه البرك تلعب دورًا أشبه بالكبسولات الزمنية، حيث تحتفظ بسجلات جيولوجية دقيقة للكوارث الطبيعية التي حدثت في المنطقة، مثل الزلازل والتسونامي، على مدار آلاف السنين. اكتشاف غير متوقع في اللحظات الأخيرة توصل فريق البحث من جامعة ميامي إلى هذا الاكتشاف خلال بعثة استكشافية استمرت 6 أسابيع، استخدموا خلالها مركبة استكشاف تعمل عن بُعد للغوص في أعماق البحر. وجاء الاكتشاف بالمصادفة في الدقائق الأخيرة من إحدى الغطسات، عندما كشفت المركبة عن قاع بحر مهجور مغطى بطبقات كثيفة من الطين، قادتهم إلى هذه البرك الغامضة. حياة في أقسى البيئات.. هل يقودنا ذلك إلى كواكب أخرى؟ رغم الظروف القاسية لهذه البرك، إلا أن العلماء اكتشفوا أن بعض الميكروبات المتطرفة، مثل البكتيريا التي تختزل الكبريتات، قادرة على العيش هناك، وهو ما قد يساعدهم في فهم كيفية نشوء الحياة في البيئات القاسية على الأرض، وربما حتى على عوالم أخرى خارج كوكبنا، وفقًا لتقرير Live Science أن الميكروبات التي تزدهر في هذه البيئات القاسية قد تكون مفتاحًا لتطوير تقنيات جديدة في الطب والتكنولوجيا الحيوية. فقد أظهرت بعض الدراسات أن الإنزيمات المستخرجة من هذه الكائنات يمكن أن تكون مفيدة في تطوير أدوية جديدة أو تحسين عمليات معالجة المياه في المناطق الصحراوية. كما أن دراسة هذه البيئات قد تلهم العلماء في تطوير تقنيات الاستدامة التي تسمح بإنتاج الطاقة أو المواد الغذائية في بيئات معادية مثل الفضاء أو المناطق القاحلة على الأرض. هل هذه البرك دليل على إمكانية الحياة خارج الأرض؟ يعتقد الباحثون أن دراسة هذه البرك قد توفر أدلة قوية على احتمال وجود حياة في أماكن أخرى من الكون، حيث تشبه ظروفها تلك التي يُعتقد أنها كانت موجودة على الأرض في بدايات تشكّلها. إذا كانت الحياة قادرة على التكيف مع هذه الظروف القاسية في أعماق البحر، فهل يمكن العثور على كائنات مجهرية في بيئات مماثلة على المريخ أو في المحيطات الجليدية للأقمار التابعة لكوكب المشتري؟ يبدو أن البحر الأحمر قد يحمل بين أمواجه مفاتيح لإجابة هذا السؤال. مختبر طبيعي لفهم نشأة الحياة في دراسة نُشرت في Nature، أوضح الباحثون أن هذه البرك توفر أدلة حيوية على كيفية تشكل الحياة في البيئات القاسية. حيث وجد العلماء أن البكتيريا الموجودة هناك تشبه الميكروبات التي يعتقد أنها كانت أولى أشكال الحياة على الأرض قبل 3.5 مليار سنة. كما يرى الباحثون أن هذه البيئات قد تساعد في تطوير نظريات جديدة حول الحياة على كواكب مثل المريخ وإنسيلادوس (قمر زحل) وأوروبا (قمر المشتري)، حيث يُعتقد أن تلك العوالم تحتوي على محيطات مخفية تحت الجليد.