أضحى الحديث عن ضرورة صنع إيران قنبلة نووية لمواجهة التهديدات الإسرائيلية بضرب منشآتها النووية أمرًا معتادًا فى الشارع الإيرانى بعد أن كان مجرد التفكير فيه محرمًا منذ أن أعلن المرشد الأعلى على خامنئى أن هذه الأسلحة غير إسلامية. وخلال السنوات الماضية حاولت مؤسسات عسكرية وسياسية إيرانية التلويح بتغيير العقيدة الدفاعية، وإنتاج السلاح النووى، وعزز هذا التوجه التصعيد الراهن فى المنطقة الذى يفرض معادلة جديدة على إيران، لا سيما بعد الضربة التى لحقت بحزب الله، أهم وكلاء إيران فى المنطقة؛ ما رسخ الشعور بأن إيران باتت فى مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وعليها التحرك على نحو غير تقليدى لتلك المواجهة. تمتلك طهران الآن -لأول مرة فى تاريخ الجمهورية الإسلامية- المقومات الثلاثة؛ القدرة، والسياق، والفرصة لتغيير استراتيجيتها النووية، متجاوزة السرد السلمى للطاقة، خاصةً أن محور المقاومة كان يمثل لها قنبلتها الذرية البديلة، لكن بعد الهجوم الدامى على قوات محور المقاومة، يكون الرادع الأخير لدى إيران حاليًا هو السلاح النووى. ركائز العقيدة الدفاعية الإيرانية تعكس العقيدة الدفاعية الإيرانية عددًا من الأسس التى تتبعها طهران فى إطار استراتيجية الأمن القومى، إذ تستند تلك العقيدة إلى مجموعة من العوامل التاريخية، والجغرافية، والدينية، التى تؤثر فى إدراك الجمهورية الإسلامية لهيكل الفرص والتهديدات. وبدراسة هذه العقيدة، يمكن فهم خطة استعداد إيران للدفاع عن سيادتها وأمنها القومى، التى تركز على: تطوير قدرات الردع العسكرى، وتبنى استراتيجيات دفاعية متعددة الجوانب، تشمل الحرب غير التقليدية، والاكتفاء الذاتى فى الصناعات الدفاعية مثل الصواريخ والمسيرات. فضلًا عن تعزيز نفوذها الإقليمى، ورسم خريطة للتحالفات التاريخية؛ ومن ثم، يعد فهم هذه العقيدة أمرًا ضروريًّا لتحليل السياسات الإيرانية، واستشراف مستقبل المنطقة، وتأثير استراتيجيات إيران الدفاعية على الأمن الإقليمى والدولى، وفى هذا السياق، تتضمن العقيدة الدفاعية العسكرية الإيرانية: تجنب التدخل المباشر فى الصراعات وإشعال الحروب، وأولوية الدفاع بدلًا من الهجوم، والأهم من وجهة نظر النظام الإيرانى هو تعزيز الردع الدفاعى؛ لذا حاولت طهران - فى العقود الأربعة الماضية- جعل تلك المبادئ أساسًا لعملية صنع القرار الإيرانى، ونموذجًا لسلوكها؛ ما ساعد إيران أن تكون جهة مرنة تكتيكيًّا، تتمتع بمهارة خاصة فى القدرة على التكيف مع أى موقف وأى صراع، وظهرت خصوصية تلك المرونة فى إعطاء بعض الصراعات الأولوية للدفاع، وفى أخرى للهجوم، سواء أكان هجومًا مباشرًا، أم عن طريق وكلائها فى المنطقة. إشكالية استخدام السلاح النووى فى الفقه الإيرانى فى عام 2010، أصدر المرشد الأعلى، على خامنئى، فتوى باعتبار استخدام الأسلحة النووية محرمة دينيًّا، وأن البلاد لن تسعى إلى امتلاكها، وقد استشهد المسؤولون الإيرانيون بهذه الفتوى أعوامًا، كدليل على أن الجمهورية الإسلامية لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية. لكن عقب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ظهر نهج جديد، وتزايدت الدعوات الإيرانية لمراجعة العقيدة الدفاعية لطهران، خاصةً بعد قصف السفارة الإيرانية فى دمشق، وتصاعد التوتر بين طهران وتل أبيب، ففى إبريل (نيسان) الماضى، صرح العميد أحمد حق طلب، قائد هيئة حماية وأمن المراكز النووية الإيرانى، بأن طهران مستعدة للتعامل مع أى تهديد من إسرائيل، محذرًا من أن الهجوم الإسرائيلى المحتمل على المنشآت النووية يمكن أن يغير سياسة إيران وعقيدتها النووية، فيما أكد رئيس المجلس الاستراتيجى للعلاقات الخارجية، كمال خرازى، أن العقيدة النووية للجمهورية الإسلامية قابلة للتغيير. ورغم التصريحات العلنية التى أدلى بها المسؤولون الإيرانيون، أصرت وزارة الخارجية الإيرانية على عدم حدوث أى تغيير فى العقيدة النووية للبلاد، بيد أن هذه الرسائل المزدوجة قد تعكس نقاشًا دائرًا بالفعل داخل النظام فى إيران، حيث لم يكن ميزان القوى أو الإجماع حتى وقت قريب لصالح بناء الأسلحة النووية ونشرها، ولكن هذا التوازن ربما يتحول فى ظل تطورات الصراع الحالى بين إيران وإسرائيل. ولعل الجدل بشأن مراجعة العقيدة النووية وصل إلى مستوى مقلق فى الأيام القليلة الماضية، بعدما دعا 39 عضوًا من أعضاء البرلمان الإيرانى، المجلس الأعلى للأمن القومى الإيرانى الذى يعد أعلى هيئة أمنية فى البلاد، ويترأسها الرئيس مسعود بزشكيان، إلى إعادة النظر فى العقيدة الدفاعية للبلاد، على خلفية التصعيد الأخير مع تل أبيب. وبدأت التحليلات الإيرانية تحاول الخروج من مأزق فتوى المرشد الأعلى بأن هناك فرقًا بين إنتاج القنبلة النووية واستخدامها، وأن حرمة السلاح النووى فى الفقه الشيعى تتعلق بآثاره المدمرة والمهلكة؛ ومن ثم فإن إنتاجها فى ظل التهديدات المتواصلة باستهداف المنشآت الحيوية، يشكل عاملًا رادعًا يُفضى إلى تهدئة التصعيد، وخفض التوتر فى المنطقة من وجهة نظر المسؤولين الإيرانيين؛ لذا تزايد الجدل بشأن الرجوع فى فتوى خامنئى، وإمكانية تعديلها وفقًا لمقتضيات الوضع الراهن. اختبار للدولة النووية تدرك الجمهورية الإسلامية أن برنامجها النووى يوفر لإيران ورقة ضغط استراتيجية، سواء على الصعيد الداخلى أو الخارجى، ومع أن طهران تبدى عدم نيتها تصنيع أسلحة نووية، فإن القدرات التقنية والعلمية التى تطورها فى هذا المجال تمنحها نفوذًا يمكن استخدامه ضمن الردع الشامل، فى وجه التهديدات المحتملة من جانب الخصوم الإقليميين والدوليين. وفى هذا السياق، أثارت الهزة التى شعر بها سكان مدينة أرادان فى محافظة سمنان الإيرانية فى الخامس من أكتوبر الجارى، تكهنات بشأن إجراء طهران أول تجربة نووية فى إطار مواجهة التصعيد مع إسرائيل، خاصةً بعد تقرير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) الأمريكية عن بدء طهران برنامجًا لبناء مواقع للتجارب النووية تحت الأرض، يُعرف باسم «مشروع الميدان». وما يعطى هذه التهديدات درجة من المصداقية هو أن البرنامج النووى الإيرانى أصبح اليوم أكثر تقدمًا؛ فوفقًا للوكالة الذرية للطاقة النووية تستطيع إيران فى أقل من أسبوعين إنتاج ما يكفى من اليورانيوم الصالح للاستخدام فى صنع الأسلحة لصنع قنبلة نووية، كما ذكرت بعض التقارير الإعلامية الإيرانية أن البلاد تمتلك ما يكفى من اليورانيوم المخصب لإنتاج عشر قنابل نووية، وليس قنبلة واحدة. فضلًا عن أن حديث المرشد الأعلى على خامنئى فى أغسطس (آب) الماضى، الذى تضمن أسس العقيدة الدفاعية الإيرانية وركائزها، والدوافع الميدانية لتحقيق الردع العسكرى، مع التمسك بأحقية الدولة فى الحفاظ على أمنها القومى، ومستقبل شعوبها، يشير إلى أكثر من مجرد تلويح بإمكانية تغيير عقيدتها النووية لتحقيق الردع وفق إطار مصطلح الحرب التكتيكية الذى يتماشى مع الرؤية السياسية الحالية للنظام الإيرانى؛ ومن ثم يمكن فهم توجه إيران لصنع سلاح نووى فى إطار إرسال رسالة ردع مباشرة للإدارة الأمريكية الحالية أو المستقبلية لمنع القيام بحملة اقتصادية وعسكرية أخرى على غرار حملة الضغوط القصوى فى ظل الصراع المحتدم بين طهران وتل أبيب، وينعكس هذا -على نحو مباشر- على البعد الوطنى الذى يعد جزءًا محوريًّا من خطاب النظام الإيرانى، الذى يستخدم البرنامج النووى لتعزيز شعبيته الداخلية، والترويج لفكرة أن إيران قوية وغير قابلة للخضوع للضغوط الخارجية؛ ما يحقق أهداف طهران الاستراتيجية والداخلية على السواء. الخاتمة ترى الجمهورية الإسلامية أن برنامجها النووى جزء من العقيدة الدفاعية؛ إذ تسعى من خلاله إلى تحقيق أهداف حيوية تتعلق بالأمن القومى، والسيادة، والردع، وذلك ضمن معادلة القوة والتوازن الإقليمى، إذ إن فكرة التلويح بتغيير إيران عقيدتها الدفاعية فى المستقبل القريب، بسبب الأوضاع الداخلية، والإقليمية، والدولية، تشير إلى أن طهران تمتلك أدوات ضغط فعالة على الصعيد الدبلوماسى يمكنها أن تتجاوب مع أى ظرف، ومن هذا يُمكن القول إنه عندما تصبح دولة ما نووية فإن التوترات لا تختفى، بل يتغير مستواها، أى أن التوترات تنتقل من الأمن إلى القوة، وتنتقل التهديدات من الحرب المشتركة إلى التنافس، وهو ما تطمح إليه إيران منذ أكثر من أربعة عقود. * باحثة دكتوراة فى العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة ينشر بالتعاون مع CAES مركز الدراسات العربية الأوراسية