نظراً للزحام القاتل والتكدس الرهيب الذي وصلت إليه شوارع قاهرة المعز الجميلة (حيث لا يمكن الاستمتاع بهذا الجمال إلا بعد الساعة 4 الفجر طبعاً) قررت أن أستغني عن السيارة لفترة وأن أتنقل بالمواصلات سواء التاكسي أو مترو الأنفاق... وفي الصباح الباكر وقبل أن تكتظ الشوارع بالكادحين والعاملين وسائقي الميكروبصات –حبايبي- خرجت من منزلي واتجهت لأستقل تاكسي .. وعلي انغام الكاسيت التي كانت تدوي في أذني من علي بعد أمتار بالأغنية الشهيرة "أنا مش خرنج لا أنا كنج كونج" ركبت التاكسي وبمجرد أن أغلقت باب التاكسي وجدت السائق يصرخ "حسبي الله ونعم الوكيل" في البداية ظننت اني أغلقت الباب بقوة مما أغضبة فاعتذرت له بأدب وقلت له "أنا آسفة ماكانش قصدي والله هو اللي اترزع مني" بص لي باستهزاء في المرآه وقالي ببرود "هو ايه ده" قلت له " الباب رد علي " يامدام أنا مابتكلمش علي كده" " معلش بس أصل أنا مخنوق شوية" المهم قررت اني أحترم خصوصيته ولم أسألة عن سبب ضيقة..ولكني في نفس الوقت لم أعد أستطيع تحمل صوت الكاسيت المرتفع ولا كلمات الأغنية "اللي خلتني عايزه أرجع كل اللي في بطني" فاستجمعت قوتي –طبعا وأنا اتذكر آخر مرة طلبت من سائق الميكروباص أن يخفض صوت الكاسيت فسمعت ما لم تسمعة أذني من قبل حتي كاد ان يوقف الميكروباص وينزلني في منتصف الطريق- المهم قلت له بنفس الصوت المنخفض "لو سمحت ممكن توطي شوية" وفجأة انفجر الرجل وقالي"أوطي ايه اكتر من كده ..مااحنا طول عمرنا موطيين انا موطي وسيادتك لامؤاخذة موطية والأستاذ اللي لابس بدلة ده موطي ..ايه الجديد يعني" فابتسمت ابتسامة بلهاء وقلت له "لا انا قصدي توطي الكاسيت" قالي بصوت أكثر حماس وقوه " يا مدام صوت الكاسيت الحاجة الوحيدة اللي أقدر أعليها هتيجي سيادتك لا مؤاخذة وتقوليلي وطي لا بأة مش هوطي " وبدأيهتف وكأنه في مظاهرة "مش هوطي ومش هطاطي" وعند هذه النقطة بصراحة لم أعد احتمل ولكن هذه المرة لم أعد أحتمل فضولي لمعرفة هموم هذا الرجل فسألته "مالك بس ياعم متضايق من ايه" قال لي بمرارة "متضايق من ايه ..علي رأي الأستاذ محمد صبحي من العيش والعيشة واللي عايشنها" قلت له "ليه بس يا عم اتفاءل شوية" التفت لي كانه يريد ات يتفحصني ويتاكد أني لم أهبط حالا من كوكب آخر وقال " سيادتك لسة جاية من بلاد برة ولا مش عايشة هنا ولا اية" قلت له "عايشة هنا زي زيك وبعاني كل اللي انت بتعانية بس يعني خليك متفاءل" رفع حاجبة الشمال وقال لي كأنه سيفجر سرا "بصي يا أستاذة ..واسمح لي يعني أقولك ياأستاذة" قلت له "لا اتفضل قول..خد راحتك" قالي بصوت منخفض " الحل في البرادعي" وسكت عن الكلام كانه ينتظر رد فعلي الذي أقلقه قليلا فاستطرد يقول "هو سيادتك من الحزب الوطني" قلت له " لا بس مين البرادعي ده بأه" قالي "ايه يامدام امال شكل سيادتك متنورة يعني" "ما تعرفيش مين البرادعي" قلت له "عرفني ياسيدي منكم نستفيد" قال لي بنفس الصوت المنخفض "ده بتاع الطاقة الذرية" وعندما لم يجد أي علامات للانبهار أو الاندهاش أو الاهتمام بما قال خفض صوته اكتر وقال لي " اللي هيترشح قدام الريس الكبير" قلت له "ياااه قدام الريس الكبير وده هيعرف باه يحكم مصر" مرة اخري نظر الي باستهزاء وقال بصوت منخفض جدا وكأنه يحدث نفسه "يافتاح ياعليم ..امال تعليم ايه بس اللي بتتعلموه" ثم رفع صوته وقال باستهزاء "ياأستاذة ..بقولك بتاع الطاقة الذرية تقوليلي هيعرف يحكم ..امال مين بأه اللي يعرف عم علي بتاع العيش..ده جامد قوي..ده مخه كمبيوتر" قلت له "يعني انت هتنتخبه لو اترشح" قال لي "امال ايه هانتخبة أكيد بس ماعنديش البطاقة دي اللي بينتخبو بيها بس في ناس قالولي هيعملوهالي" قلت له " طيب ليه هاتنتخبة يعني انت تعرف حاجة عن البرنامج الانتخابي بتاعة يعني انت متخيل انه هيعمل ايه في البلد" قالي بثقة "آآآه طبعا ما هو ده بتاع جمعية التغير وهيعملوا حاجات كتير" قلت له "مين جمعية التغيير دي وهيعمل ايه بأه الدكتور البرادعي في مصر" قالي "هيعمل ايه هيعمل كتير ..ه ه ه مش عارف بس أكيد هايعمل حاجات كتير.." ثم اكمل بصوت اكثر انخفاضا كأنه سيفجر سرا آخر "يا أستاذه ده أنا أخويا كان في الاعتصام اللي كان عند مجلس الشعب ..وعدوا عليهم وادوهم بطاطين" ثم أكمل وكانه يريد ان يقنع نفسه "آه ..ادو كل واحد بطانية لوحده" قلت له " بطانية...وايه كمان " وبعد ما شعر بأنه اتخنق من جهلي ببواطن الأمور -من وجهة نظرة - قال بملل" يعملوا اي حاجة بأه ياأستاذة ..يغيروا أي حاجة المهم نشوف تغيير" ثم بدأ في تعلية صوت الكاسيت مرة أخري معلناً بذلك عن انهاء الحديث معي ولم يعجبه طبعا استنكاري لمؤازرته للبرادعي دون أن يعرف أهدافه واتجاهاته وخططه المستقبلية وفضل ان يسمع "أنا مش خرونج" علي ان يسمع صوتي الذي بدأ يثير أعصابة وبدا أشبة بصوت رئيس الوزراء وهو يدلي بتصريح من تصريحاته..وبدأت انا في التفكير هل وصل بنا الحال إلي هنا..هل أصبحنا ننشد التغيير دون أن نفهم التغيير إلي ماذا او إلي أين..هل نحن مقبلون علي كوارث أكبر بسبب عدم وجود أي نوع من الوعي السياسي في الشارع المصري وأصبح الشعب يردد كلمة التغيير دون أن يفهمها تطبيقا للمثل الشعبي "الجعان يحلم بسوق العيش دون أن يعرف العيش ده معجون من ايه أو محطوط فيه ايه" ..والمشكلة الأكبر أن الشعب لا يشعر ولا يعرف أن ليس لدية الوعي السياسي الكافي وتجد أن كل مواطن يتكلم في السياسة وكأنه خبير سياسي محنك أو محلل سياسي متخصص.. أنا لا أعترض علي شخص الدكتور الكبير البرادعي في حد ذاته ولكني أحتج علي حالة عدم الوضوح المحيطة به والتي تضع حول صورتة اطارا كبيرا من عدم الثقة من عواقب ترشحة للرئاسة ..فتارة نسمعة يعلن انه سيترشح وتارة لا يعرف وتارة يضع شروطا للترشح..لكن ما هي رؤيته وما هي خطته وما هي أفكارة وما هو تاريخة السياسي حتي يحكم بلد عريق لها تاريخها العظيم مثل مصر وهل سيتحسن الأمر أم سيكون اكثر سوءا ونرجع "نندب ونقول ولا يوم من الأيام اللي راحت". وتوقف التاكسي وسمعت صوت السائق يقول"وصلنا يا أستاذه" ونزلت من السيارة وانا مهمومه وأفكر بشدة ولن أتوقف عن التفكير إلي أين سيصل بنا الحال ومتي ستتضح الأمور ومن يتحمل مسئولية توعية ذلك الشعب "الغلبان اللي نصة عامل حدق وفاهم كل حاجة وهو مش فاهم " واذا كنا قد قررنا أن نختار التغيير فعلا ..فلابد أن نختار الطريق الصحيح للتغيير وإلا سنصل لحال أسوأ مما نحن فيه عشرات المرات إن المتأمل اليوم في حال مصرنا الحبيبة وماأصابها من الضعف والهوان وماسلط عليها من الذل والصغار بعد أن كانت بالأمس بلداً مهيبة مصونة سيري بعين الحقيقة أن السبب في ذلك كله هو نحن أنفسنا ...فإذا كنا نحلم بالتغيير لابد ان نبدأ من أنفسنا فنقضي علي الفساد والمحسوبية والواسطة والسرقة والرشوة التي انتشرت كالوباء في مجتمعنا..لكن مافائدة تغيير الحاكم والمحكومين علي حالهم ..من أين سيأتي الصلاح !!! وتذكروا قول الحق تبارك وتعالى في سورة الرعد : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فهي آية عظيمة تدل على أن الله تبارك وتعالى بكمال عدله وكمال حكمته لا يُغير ما بقوم من خير إلى شر ، ومن شر إلى خير ومن رخاء إلى شدة ، ومن شدة إلى رخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فإذا كانوا في صلاح واستقامة وغيروا غير الله عليهم بالعقوبات والنكبات والشدائد والجدب والقحط ، والتفرق وغير هذا من أنواع العقوبات جزاء وفاقا قال سبحانه : (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ).