على قوائم ثمانى وعشرين متوالية سردية معنونة، وقد أفرزت كل متوالية حكاية من حكايات العالمين الأرضى والسفلى، وقد لعبت الأحداث الكثيرة التى جرت على الأرض من خلال وحدة المكان الذى لم يكن غير دار الحاج صالح، وأهم ما فى الدار تلك القاعة الواسعة التى سماها الحاج صالح بقاعة الشيخ، والمقعد البحرى كما كان يُسميها باقى سكان المنزل الكبير، والقاعة تُشكل سرا من أسرار الدار، حيث يتم الحديث عنها همسا أو تلميحا، وكانت موضع أسئلة الصغار. أما فيما يتعلق بالآخر، فبالإضافة إلى هواجس القاعة، كانت الأصوات والأحلام المتكررة إضافة إلى عمرة الدار التى لم تكن فى واقعها غير الجنية التى تسكن الفرن. من خلال الدار وعلى إيقاع أحداثها تنمو شخصياتها الكثيرة والمتعددة، وعلى رأس الأسرة الكبيرة الشيخ صالح ابن أحد أقطاب الصوفية الذين ينحدرون من الدوحة العلوية التى سكنت صعيد مصر فى بداية الفتح الإسلامى، حوّل نزلته إلى ملتقى الأقطاب والمريدين السالكين طريق الله، يأخذنا الراوى من خلاله إلى طقوس الرجل وأبيه الشيخ على الذى يأتيه فى المنام «زعلان» لأنه تأخر فى ميعاد الختمة، ويأخذنا إلى أولاده وبناته وتوصيف بيته وزواج ابنه عنتر من ابن خالته تحية التى كانت تحب عمر، والتى دخلت الدار على كره من ضرتها وداد وتصبح صديقة لصباح، ليتداخل مسرود الرواية على أركان عدة يأتى من أهمها: وفرة الشخصيات التى أنتجت المبدعة لمعظمها متواليات كاملة مثل: - صباح وعلاقتها مع الشيخة رابحة والتى تطلب منها أن تعمل لها عملا من أجل إنجاب ولد تخاوى به بناتها، وعلاقتها مع زوجها وموقفه من السحر، وتنفذ أوامر الشيخة وتوزع علاقاتها مع نساء الدار، كل على حدة. - فاطمة وحكاية منديلها وعشقها لجسد الحاجة البض الذى تفوح منه رائحة الزبدة واللبن، وتروى حكايتها يوم ذهبت إلى النهر فى ضوء القمر لملء الجرار وكيف عادت فاطمة خائفة لأنها رأت مندبة حامية ونسوان لابسة أسود، وفى ضى القمر لمحت واحدة فى نص المندبة بتشلشل بشاش أسود بين ذراعيها. - دياب صديق النفر وصاحب جلسات الحشيش، يحب فاطمة، ويُقسم لو وافق الشيخ على زواجه من فاطمة سيترك نهائيا الجرى ورا النسوان وجلسات الحشيش فيلجأ إلى أمه التى يجلها الشيخ ويحترمها وتطلب منه أن يزوج فاطمة لدياب الذى تعهد له ألا يقرب الحرام ويتزوجها بعد أن اغتسل بالماء والملح وأقسم على المصحف أن يترك كل ما يُغضب الله. - دولت التى لها طقس خاص يوم الجمعة ترفض الغسيل والخبيز والعناية بزوجها وتفضل العلاقة الوجدانية بينهما. -النضر ابن الشيخ ميال إلى اللهو وشرب الحشيش مع صديقه دياب ويروى لهم إحدى شطحات الحشيش. - فايزة تلك المرأة التى كانت تعيش على هامش الحياة، كبرت وصارت امرأة وتعرف أن زوجها يحب النساء يحب زبيدة ابنة الشيخ صديق. لقد لعبت الشخصيات المنتقاة بدقة وتم ترسيم أدوارها بشكل تصاعدى موظف سواء الرئيسة أو المساندة بحيث يرى متابعها كأنها ملحمة سيرية واحدة ومتكاملة داخل سياق سردى واع ومتوازن بشكل رائع ودقيق جدا. ولعل «عمرة الدار» كانت من أهم أساسيات العمل، ليس لارتباطها بالعالم السفلى وأنها تسكن فرن دار الحاج وإنما كانت من أهم الحالات التى ربطت بين العالم الأرضى والعالم السفلى..غير ارتباطها الدائم بالحاجة الكبيرة التى تعرف وجودها وتعترف بها، ولذلك تكرر حضورها فى متن الرواية.. فتّحت صباح عينيها ذاهلة والحاجة من خلال النور الذى يحيط بوجهها قالت لها: صباح.. خلى بالك من البيت. أنا خايفة يا أمه مقدرش أسد! هتسدى بإذن الله، خلى بالك منها إوعى تزعليها. توطدت العلاقة بين صباح وعمرة الدار، صارت تفعل لها كل الطقوس اللازمة لجعل العلاقة يشوبها الرضا والسلام، حتى لا تؤذى أحدا من العائلة. وهناك أيضا بنية الأحلام التى أسهمت فى نقل جوانب الرواية إلى فضاء صوفى حار أضفى على موضوعها حالة روحانية، وما أفرزت هذه الشخصيات من علاقات وما طرحته من أفكار، وما اشتغلت عليه سواء فى دروب الخير أو الشر، الإقبال أو الإدبار، الحب والكراهية وغيرة السلايف ضمن إطار مجتمعى حتى وإن كان ضيقا فقد اتسعت مدارات إيحاءاته حتى بعد موت الجد والجدة. وما بين العالمين الأرضى والسفلى والرابط بينهما عمرة الدار والأحلام الروحانية المبشرة بكل خير وسعادة وتكاتف الشخصيات وكثافتها، قامت حكايات عمرة الدار لتفيدنا إلى تلك العوالم الروحانية والصوفية التى افتقدناها، ومن هنا تأتى أهمية الرواية التى تذكرنا بكل ما هو خيرٌ ونبيلٌ ومقدس بهى وجميل وأصيل فى الوقت ذاته.