الفن والبلاغات

لم أصدق ما قرأته عيناى.. يقول الخبر: «تقدم أحد المحامين ببلاغ إلى المستشار حمادة الصاوى، النائب العام، طالب فيه بمنع مطربى المهرجانات، وعلى رأسهم حسن شاكوش وحمو بيكا وعمر كمال وغيرهم، من السفر إلى خارج البلاد لإحياء حفلات غنائية وذلك لإساءتهم لسمعة مصر بالخارج وتقديم محتوى مبتذل وهابط لا يليق بكون الفن المصرى يمثل القوة الناعمة لمصر»، وأكد البلاغ أن ما يقدمه مطربو المهرجانات لا يعد فنًا وإنما هو محتوى هابط يسىء إلى المصريين جميعًا، الأمر الذى يتوجب معه إصدار قرار بمنعهم من السفر لإحياء حفلات غنائية باعتبارهم واجهة غير مشرفة لمصر والغناء المصرى.
لم أصدق أن الأمور قد وصلت إلى هذا الحد، مطاردة مطربى المهرجانات ليس داخل مصر فقط بل خارجها، مما يدل على أن المنع من الغناء داخل مصر لم يرضهم، حيث صدمهم أن يخرج هؤلاء المطربون للغناء فى حفلات وفعاليات مهمة فى دول الخليج، وهالهم أن يكون لهؤلاء المطربين جمهور ومعجبون بالآلاف فى هذه الدول فلم يجدوا وسيلة لمنع هذا أيضًا سوى حبسهم داخل مصر ومنعهم من السفر.. فهل صارت مصر سجنًا يُغلق دون الناس؟ وهل أصبح هناك من يصادر ليس على ذوق بعض المصريين بل على ذوق بعض العرب أيضًا؟ أن تصل الأمور لهذا الحد بعد أن تم منع مطربى المهرجانات من الغناء داخل مصر رغم جمهورهم العريض مما يجعلنا نتساءل: هل هذا تحكم فى هؤلاء المطربين أم أنه فى الواقع تحكم فى آلاف المصريين فيما يجب أن يسمعوا أو لا يسمعوا.. والآن تحكم فى العرب ومنعهم من أن يسمعوا ما يريدون؟
هناك حالة من المطاردة وفرض الذوق وما يرونه الأخلاق على الناس، ليس فقط فى مطربى المهرجانات بل أيضًا نحن نجد مطاردة لمستشار بدعوى ازدراء الدين، لأنه فكر أن يقدم وجهة نظره وأفكاره المغايرة للبعض ثم هاهم البعض يلاحقون محمد صلاح، لأنه قال ردًا على لماذا لا يشرب الخمر بأنه لم يجد فيها ما يعجبه، وهالهم أنه لم يقل لأنها حرام، ونسى هؤلاء أن هذا النجم المصرى المتألق يعيش فى المجتمع الإنجليزى ولا يعيش فى مصر، وفى المجتمع الإنجليزى لو قال إن الخمر حرام ومآل شاربها النار، كما أرادوا، لربما اتُّهم بالتطرف، لذا فهو يتكلم وعينه على المجتمع المصرى والعين الأخرى على المجتمع الإنجليزى، لكنهم يريدون منه الانتصار لما يعتقدون هم وحدهم دون غيرهم.
أنا لم أسمع الكثير من أغانى المهرجانات لكننى أرفض مصادرة الفن، أى فن، والتحكم فيه، فأم كلثوم وعبدالوهاب قدما كثيرًا من الأغانى التى لو قُدمت الآن للاحقوهما بتهمة الإساءة لسمعة مصر، فالمشكلة ليست فيما يُقدم، بل فى هذه الحالة من المطاردة والمصادرة والرغبة فى أن نكون جميعًا نسخة واحدة مكررة ليس فيها أى اختلاف أو تفرد.. نحن لسنا مقاسًا واحدًا وذوقًا واحدًا وإلا لما وجد هؤلاء المطربون كل هذا الجمهور لحفلاتهم، لذا ففرض الذوق الواحد على الجميع مرفوض تمامًا ومحاولة إعادة تربيتنا جميعًا على مقاس من يملك السلطة أو يسعى لامتلاكها كالنقابات الفنية مرفوض تمامًا.. اتركوا الناس يحكمون فلستم الجهة الوحيدة القادرة على الحكم، لأنكم تحكمون بذوقكم الخاص الذى لا يمثل ذوق جميع الناس.
الفكرة فى الفن أن يُترك حرًا لا أن تتم مصادرته فى الداخل أو مطاردته حتى فى الخارج.. والفن يتغير مع تغير الزمن، والأجيال تتفاعل مع من يمثلها ويعبر عنها حتى لو لم يَرُقْ لكم، ولا يمكن أن يقابل الفن والفنانين ببلاغات للنائب العام للمنع من السفر.