الانتهاء من تنفيذ وعاء الإحتواء الداخلي لمبنى المفاعل بالوحدة النووية الأولي- (صور)    حملات مكثفة لإزالة الإشغالات ورفع كفاءة شوارع سيدي سالم ودسوق في كفر الشيخ    وزارة التخطيط تشارك في اجتماع منظمة العمل الدولية    بالصور.. رئيس مدينة المنيا يفتتح مسجدين جديدين    البنتاجون: يجب فتح المعابر البرية لتدفق المساعدات إلى غزة    واشنطن بوست: المسؤولون الأمريكيون يرون أن غزو إسرائيل لرفح فشل استراتيجي    الرئيس الأوكراني يوقع قانونا يسمح للسجناء بالخدمة في الجيش    شعارنا «الفوز أو الفوز».. تصريحات مثيرة لجوارديولا قبل مباراته الأخيرة في البريميرليج    ديربي الرياض.. تشكيل الهلال الرسمي أمام النصر في دوري روشن السعودي    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    السيطرة على حريق اندلع في حظيرتي مواشي وسيارة ومنزل بأسوان    من أول يونيو.. تشغيل قطارات نوم وأخرى مكيفة للإسكندرية ولمطروح    أمه خدرته لاستخراج أعضائه.. نجاة طفل فى بورسعيد من نفس مصير فتى شبرا الخيمة    ماجدة موريس: عادل إمام فنان ذكي والمسرح ساعده على فهم جمهوره    بسبب تمثال للزعيم.. ليلى علوى تتعرض للسخرية من رواد "السوشيال ميديا"    غدًا.. متحف البريد يستقبل الزائرين بالمجان بمناسبة اليوم العالمي للمتاحف    أمير الانتقام    شوقي علام: من يفتي بعدم جواز التبرع بالزكاة لحياة كريمة فقد أخطأ المنهج    عاجل: موجة حارة تضرب مصر.. الأرصاد تكشف تفاصيل الطقس ليوم الجمعة والأيام القادمة    باحث ب«المصري للفكر»: إسرائيل تعتبر نفسها فوق القانون والمحاسبة «فيديو»    كرة طائرة.. الأهلي يجدد عقد تاتيانا لمدة موسم    جامعة سوهاج ضمن أفضل 2000 جامعة على مستوى العالم لعام 2024    عيار 21 بالمصنعية الآن.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بعد آخر ارتفاع    أحمد السقا: أنا هموت قدام الكاميرا.. وابني هيدخل القوات الجوية بسبب «السرب»    ناقد فني ينتقد كتابة أحمد مراد مسلسل عن أم كلثوم    مصر تبحث تعزيز التعاون مع التشيك فى مجالات التحول الرقمى والذكاء الاصطناعى    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    في اليوم العالمي لفرط ضغط الدم.. إرشادات للوقاية من «القاتل الصامت»    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    بعجينة هشة.. طريقة تحضير كرواسون الشوكولاتة    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    إعلام فلسطيني: شهيدان ومصاب في قصف إسرائيلي استهدف مواطنين بحي الزهور    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    جوري بكر تعلن انفصالها بعد عام من الزواج: استحملت اللي مفيش جبل يستحمله    هشام ماجد ينشر فيديو من كواليس "فاصل من اللحظات اللذيذة".. والجمهور: انت بتتحول؟    «جمارك القاهرة» تحبط محاولة تهريب 4 آلاف قرص مخدر    شهداء وجرحى في قصف للاحتلال على مخيم البريج ورفح بقطاع غزة    مساندة الخطيب تمنح الثقة    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    تناولها أثناء الامتحانات.. 4 مشروبات تساعدك على الحفظ والتركيز    مؤتمر جوارديولا: نود أن نتقدم على وست هام بثلاثية.. وأتذكر كلمات الناس بعدم تتويجي بالدوري    البنك المركزي الصيني يعتزم تخصيص 42 مليار دولار لشراء المساكن غير المباعة في الصين    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    آخر موعد لتلقي طلبات المنح دراسية لطلاب الثانوية العامة    كوريا الشمالية ترد على تدريبات جارتها الجنوبية بصاروخ بالستي.. تجاه البحر الشرقي    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    كيف يمكنك حفظ اللحوم بشكل صحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024؟    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. إبراهيم منصور يكتب: رؤية نِسْويّة للصراع.. الشاعرة الحكيمة جليلَةُ بنت مُرّة
نشر في المصري اليوم يوم 12 - 03 - 2021

خاض العرب في جزيرتهم حروبا عديدة بعضها كان اشتباكا مع أطراف من غير العرب، لكن أغلبها كانت حروبا داخلية، لأسباب اقتصادية، وإن بدت في الظاهر كأنها بسبب الثأر وحده.
كانت جَليلَة بنْتُ مُرّة زوجة كليب، وكان كليب المغرور حدّ الصلف، قد تعرّض لقومها بالإهانة، فقتله أخوها الأصغر جَسّاس، فأصبحت جليلة في أصعب موقف إنساني تقف فيه امرأة، فأخوها القاتل وزوجها المقتول.
في القرن الرابع الهجري عصر التدوين الواسع، روى أبوالفرج الأصفهاني (284 – 356هجرية) قصة تلك الحرب الضروس القديمة المسماة بحرب البسوس، والبسوس امرأة من بني مُرّة، وكانت شاعرة وقد صوّب كليب على ناقة لها رعَت في أرضه فقتلها، فقالت البسوس شعرا مثيرا للعداوة والثأر، قطعة تسميها العرب أشعار الفناء، منها هذا البيت:
فيا سعدُ لا تغْرُر بنفسِك وارتحلْ. فإنكَ في قومٍ عن الجار أمواتُ
فأثارت ابن أختها جسّاس، فقتل زوج أخته كُلَيْب وهو سيّدُ قومه. وقد ضربت العربُ بها المثل في الشؤم فقالوا «أشأم من البسوس»
جعل أبوالفرج الأصفهاني روايته لموقف زوجة كُلَيْب سيد بني ربيعة المقتول – في آخر القصة التي أوردها في صفحات طويلة من كتاب (الأغاني) عن حرب بَكْر وتَغْلِب تلك المعروفة باسم حرب البَسُوس.
يقول أبوالفرج إن جليلة بنت مرة، لمّا غدَت إلى مأتم زوجها كُلَيْب، قالت النسوة لأخت كليب «رَحّلي جليلة عن مأتمك فإن قيامها فيه شماتة، وعارٌ علينا عند العرب»
- فقالت لها: «يا هذه اخرجي عن مأتمنا، فأنت أختُ واترنا (من أصابنا بمكروه)، وشقيقةُ قاتلنا»
فخرجت جليلة من المأتم، وهي تجرُّ أعطافها، فلقيَها أبوها مُرّة، فقال لها:
- ما وراءَكِ يا جليلة؟
- فقالت: «ثكْلُ العَدَد، وحُزنُ الأبَد، وفقدُ حَليلٍ، وقتلُ أخٍ عن قليل، وبين ذيْن غَرْسُ الأحقاد، وتفتُّتُ الأكباد»
- فقال الأب: أوَ يَكُفُّ ذلك كرمُ الصَّفْح، وإغلاءُ الديَّات؟
- فقالت جليلة: أمنيةُ مخدوعٍ وربُّ الكعبة! أَبِالبُدْنِ تَدَعُ لك تغْلبُ دَم ربها!
هل كانت جليلة أحكم من أبيها مرة وأكثر واقعية منه في نظرتها للأمور؟ هكذا تقول الرواية.
ولكن ما سبب إنشائها لقصيدتها الدُّرّة الفريدة ؟
قال أبوالفرج، إن جليلة بعد أن خرجت مطرودة من مأتم زوجها، قالت أخت كليب التي رحّلتها عن المأتم «رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويلٌ إذا لآل مرة، من الكَرّة بعد الكرَّة»
فبلغ جليلةَ قولُها، الذي ينطوي على شماتة وتهديد، فقالت: «وكيف تشمتُ الحرةُ بهتك سِتْرها، وترقُّب وِتْرِها (أي أنها في انتظار مصيبة الثأر لزوجها من قومه) أسعدَ اللهُ جدَّ أختي، أفلا قالت: نفرةُ الحياء وخوفُ الاعتداء! ثم أنشأت تقول:
1- يا ابنةَ الأقوامِ إن شئْتِ فلا تعجَلي بالّلوم حتى تسألي
2- فإذا أنتِ تبيّنتِ الذي يوجبُ الّلومِ فلُومي واعْذُلي
3- إنْ تكنْ أختُ امرئ لِيمَتْ على شَفَقٍ منها عليه فافعلي
4- جلّ عندي فعلُ جساس فيا حسرتي عما انْجلتْ أو تَنْجَلي
5- فعلُ جساس على وجدي به قاطعٌ ظهري ومُدنٍ أجلي
6- لو بعينٍ فقئتْ عيني سوى أختها فانفقأتْ لم أحْفِل
7- تحملُ العينُ قذَى العين كما تحملُ الأمُّ أذى ما تفتَلي
8- يا قتيلا قوّض الدهر به سقفَ بيتيَّ جميعا من عَلِ
9- هدَم البيتَ الذي استحدثتُه وانثنى في هدمِ بيتي الأوّل
10- ورماني قتلهُ عن كثَبٍ رميةَ المُصْمِى به المستأصل
11- يا نسائي دُونكنَّ اليوم قد خصني الدهر برُزْءٍ مُعْضَل
12- خصَّني قتل كُليبٍ بلَظىً من ورائي ولَظىً مستقبلي
13- ليسَ من يبكي ليومين كمَن إنَّما يبكي ليومٍ ينجلي
14- يشتفي المدرِك بالثأرِ وفي درْكي ثأري ثُكل المُثْكِل
15- ليتهُ كان دمي فاحْتَلبوا بدلا منه دَما من أكْحَلي
16- إنّني قاتلةٌ مقتولةٌ ولعلّ اللهَ أن يرتاحَ لِي
أستطيع أن أتجرأ فأقول إن أبا الفرج قد تعمّدَ أن يضع أقوال جليلة وقصيدتها في آخر قصته عن تلك الحرب الضروس، التي كانت أسبابها تقليدية جدا، حيث الغرور والصلف من جانب كُليب، قد جرّ على قومه المصائب، وموقف جليلة من النسوة ومن أخت زوجها المقتول وردّها على أبيها الواهم، ثم قصيدتها البليغة حدّ الإعجاز، كل هذا كان خاتمةً موفقة للقصة الدامية، حيث لجأ المؤلف إلى تكنيك الاسترجاع (Flash back) فالأحداث التي وقعت في أول يوم من أيام الحرب رُويت في آخر قصة الحرب التي استغرقت أربعين عاما بين كرٍّ وفرّ، وهدنةٍ وقتال. طريقة في السرد تلخص رؤية درامية للقصّة المحزنة، وهي قصة المرأة العربية قبل الإسلام، في شموخها وعلوّ قدرها، واعتزازها بالتقاليد والشيم العربية الراسخة.
كانت جليلة بخلاف خالتها البسوس، سيدة حكيمة، فهي في حوارها مع أبيها لا تخادع نفسها بمعسول الأمانيّ، ولا تتجاهل أن كليبا كان لقومه رمزا لا يستطيعون التغاضي عن مقتله، ولو بالغالي والنفيس من المال، وقد حدث ما توقعتْ من قتلٍ وتشريدٍ ودماء، خلفتها حرب طويلة. بل إن الأخ الأصغر لكليب وهو مهلهل قد غدا شاعرا مشهورا بسبب تخليه عن اللهو وسعيه للثأر لأخيه كليب، وقد سجل معاركه في قصائد مطوّلة، حتى قال مؤرخو الشعر العربي إن اسم مُهَلْهِل قد لحق بهذا الشاعر المقاتل حين طوّل القصائد وهي قصائد الحرب.
أما قصيدة جليلة، التحفة الفريدة، فقد نبعت من نفسها الصادقة وعقلها الراجح لا من محفوظها من الكلمات والعبارات.
وفيما عدا كلمات قليلة مثل تفتلي (أي تحمل من الأولاد، في وصف الأم) وكذلك رمية المُصْمي (أي الذي يقتل فيرى المقتول بين يديه، وأصلها الصيد الذي يصيبه الإنسان عن قريب) فيما عدا كلمات قليلة فإن القصيدة واضحة وضوحا لا مزيد عليها، برغم مرور ألف وستمائة عام على إنشائها.
تخاطب جليلة القوم، وتخاطب نفسها، تخاطب المقتول وتخاطب القاتل، فهي تخاطب أخت كليب، كما تخاطب النسوة اللائي شهدن واقعة طردها من المأتم، كما وتخاطب القارئ المتلقي لأقوالها، وقد استطاعت في مدى الستة عشر بيتا فحسب، أن تنقل الخطاب هذه الانتقالات، بدون أن تحتاج إلى حيل بلاغية، مثل «حسن التخلُّص» الذي مدحه البلاغيون قديما، فالقصيدة قطعة واحدة، لا تعدد للأغراض فيها، فهي تجادل النسوة الذين أشاروا بإخراجها مطرودة من المأتم، لكنها لا تلومهن، ولا تلوم أخت كليب، ففي البيت الثالث، حجة منطقية لا يمكن ردها: الأخت لا تلام على شفقتها على أخيها، أنت أشفقت على أخيك المقتول، وأنا أشفق على أخي القاتل ينتظره الثأر، فهو قاتل مقتول، لذلك قالت في نهاية القصيدة، تصف حالها: أنا قاتلة مقتولة. إن جليلة بنت مُرّة تحاجج اللائمين، في حوار بليغ وبلاغته في قوة حُجّته. فقصيدتها قائمة على بلاغة الحجاج والإقناع لا بلاغة التزيين والإمتاع، وما أصدق حججها التي أظهرت الرؤية النسوية للصراع في أجلى بيان وأنصعه.
* أستاذ النقد والأدب الحديث - جامعة دمياط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.