جاءنى كمريض. رجل جزائرى فى بداية الخمسينيات له لحية مهيبة، وعينان قويتان صحراويتان. أعترف بأننى من عشاق الجزائر، البلد الحرّ الأبى، وحينما قامت الفتنة كتبتُ مراراً أن الجزائر فى القلب! وأن السفهاء لا ينبغى أن يقودوا الشعب! وأن بيننا جميلا مشتركا: اليد المصرية فى استقلال الجزائر، واليد الجزائرية فى حرب أكتوبر. رحمك الله يا بومدين. كان يحمل الهم القومى، بالذات هم مصر. وكان يعرف أنها قلب العرب (أنا إن قدر الإله مماتى/ لن ترى الشرق يرفع الرأس بعدى)، ولذلك لم يكن مستعداً للمهادنة أو مواءمات السياسة، وحين جاء إلى عبدالناصر بعد هزيمة 67 لم يقبل أن يشرح له عبدالناصر مبررات الهزيمة، قبل أن يفهم أولا ما سر الانقلاب الكامل فى موقف الملك حسين. كانت مواقفه مبدئية، وكان منطقه كالتالى: «لا ينفع أن نخوض حربا ونحن لا نعرف من معنا ومن علينا!». وحين ذهب إلى السوفيت ليحصل لمصر وسوريا على أسلحة، قذف فى وجوههم شيكين بمئات الملايين من الدولارات. قال له بريجنيف وهو يتميّز غيظا: «الاتحاد السوفيتى ليس بائعة هوى تقذف فى وجهها النقود بهذه الطريقة، ولا تاجر سلاح». لكن بومدين لم يهتز، والطريف أن طريقته أثبتت جدواها، وأخذ بريجنيف الشيكين. ألم أقل لكم إن الجزائر فى القلب! كل هذا دار كالومضة الخاطفة. كالعادة سألنى عن أحوال مصر! حينما أبديت استيائى من أداء المجلس العسكرى قاطعنى قائلا: «جيشكم عظيم وقيادته شريفة». حاولتُ أن أشرح له مبرراتى. قلتُ إننى كنت من أشد المدافعين عن المجلس سابقا، لكنه أضاع الفرصة تلو الفرصة واستهلك العذر بعد العذر. قلتُ إن ما نحن فيه من الفوضى سببه سوء الإدارة. أنت تخلق المشكلة وتهيئ أسبابها، ثم تشتكى! فهل هذا يعقل؟. عاد يحدجنى بعينيه الصارمتين. كان غاضبا كأنبياء العهد القديم حتى إنه خلع قلبى من الرهبة. قال: «يا أخى جلّ من لا يخطئ. أسهل شىء أن تنتقد، ولكن هل تضمن إذا وُضعت فى موقع المسؤولية أن تستطيع الحل! جيشكم طاهر وقيادته شريفة. أنتم لا تدرون كم عانينا فى الجزائر فى العشرية السوداء. حين انتشر الترويع والنهب والقتل». حاولت أن أقاطعه قائلا: «ولكن عندنا أيضا فوضى وبلطجية..». قال وهو يرتجف من الغضب: «أنتم مُرفّهون محظوظون يا أهل مصر. تخرجون من بيوتكم وتسهرون حتى وقت متأخر. أنتم لم تجربوا كيف لا تكون آمنا فى بيتك؟ يقتحمه عليك المسلحون فيغتصبون محارمك أمام عينيك! لولا هذا الجيش الذى لا يعجبكم لانهارت الدولة، وما استطعت حتى أن تغادر بيتك لتشترى الخبز. تنزل فتجد سيارتك قد سُرقت، فلا تدرى لمن تشتكى! النقود فى جيبك ولا تستطيع الحصول على طعام! لأن صاحب المتجر خائف على حياته ولم يفتح متجره. كل هذا قاسيناه فى الجزائر فى العشرية السوداء!». قلت وقد سرت القشعريرة فى جسدى: «معقول ساءت الأمور إلى هذا الحد؟». قال وعيناه تتقدان كجمرة: «ويحدث فى كل العالم أيضا. الغرائز الوحشية تنطلق من أعنتها. العالم السفلى بكل ما فيه من شرور. فى نيويورك انقطعت الكهرباء عشر ساعات، حدثت فيها من الجرائم ما لم يحدث فى عام كامل. جيشكم حماكم من هذه المصائب ولولاه لما صرتم آمنين اليوم. ليتك يا جيش الجزائر كنت كجيش مصر». رحت أرمق الرجل الجزائرى فى تهيب. هو لم يكن يعلم صفتى ككاتب، وإنما جاءنى كطبيب. لذلك شعرت بأن هذا اللقاء أمانة! رسالة من الله ينبغى أن أنقلها إليكم. غادرنى وهو يقول لى: «العاقل من اتعظ بغيره.. فلا تقعوا مثلنا فى الفخ». [email protected]