كان آخر لقاء لى معه فى مطلع يونيو 2009 فى العاصمة الليبية حيث كنت أحضر اجتماع مكتب البرلمان العربى الانتقالى، فلاحظت فى الطابق التاسع من «الفندق الكبير» بطرابلس، حيث أقيم، أن شخصية مهمة تقيم بنفس الطابق وتتناوب على حراستها مجموعة من رجال الأمن الليبيين، فتساءلت من هو الضيف المهم فلم أجد جواباً! وعندما كنت أتجه إلى المصعد وجدت من يرحب بى مبتسماً، فإذا هو الرئيس الجزائرى الأسبق «أحمد بن بيلا» فجدد ذلك اللقاء غير المتوقع كثيراً من مشاعر الحب والاحترام لذلك المناضل العربى، وتذكرت لقاءنا الأخير فى القاهرة على العشاء مع مجموعة من الأصدقاء، كان من بينهم الفنان الكبير «عادل إمام»، حيث ألقينا يومها كلمات ترحيب وتحية لذلك المناضل العظيم الذى جاوز التسعين من عمره، ولا يزال محتفظاً بهيبته الشخصية وذاكرته الحديدية التى تحوى الملفات الأولى للثورة الجزائرية ورفقة الرئيس «عبدالناصر» فى تلك الأيام الخوالى من المد القومى وازدهار حركات التحرر الوطنى، وقد حضر اللقاء معنا يومها السيد «حسين الشافعى» رحمه الله، النائب الأسبق للرئيس «السادات»، وسيطر على حديثنا جميعاً ذلك التاريخ النضالى المشترك بين مصر والثورة الجزائرية، وبدا «بن بيلا» يومها راضياً بمسيرة حياته مؤمناً بأنه قد أدى رسالته على النحو الذى يريد، وقد لاحظت أن لغته العربية قد تقدمت كثيراً عما كانت عليه عندما كان رئيس الجزائر وبطل استقلالها، وأنا أفتح الآن خزائن ذاكرتى لأتذكر أن أول مرة ركبت فيها الطائرة فى حياتى كانت فى يونيو 1966 متجهاً إلى العاصمة الجزائرية، فور تخرجى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ممثلاً لمنظمة الشباب العربى الاشتراكى فى احتفالات جبهة التحرير الجزائرية بعيد الاستقلال، ونقل رفات الأمير «عبدالقادر الجزائرى» من دمشق إلى وطنه الأصلى، وكان الرئيس الراحل خريج الأزهر الشريف «هوارى بومدين» قد قام بحركته الانقلابية التصحيحية قبل ذلك بشهور قليلة وقد بهرتنى الجزائر العاصمة بجمالها والروح الفرنسية والإسلامية فى نفس الوقت، التى تسود أحياءها وتمشيت فى حى «القصبة» وصليت فى مسجده وكان مرافقى هو السيد «أحمد معراجى» من شبيبة حزب جبهة التحرير، حيث التقينا حينذاك بالرئيس «بومدين» فى قصر الشعب وكان يمثل الحكومة المصرية فى تلك المناسبة السيد «محمود رياض» وزير الخارجية، حينذاك، والسيد «حسن صبرى الخولى»، الممثل الشخصى للرئيس «جمال عبدالناصر»، وقد أقمت أثناء الزيارة فى فندق «إليتى» بالعاصمة، وعندما دخلت أحد المحال فى شارع الفندق قال لى صاحب المتجر هل أنت مصري؟ قلت نعم، قال لى أريد أن أتحدث معك وحدنا، وانتحى بى جانباً ليقول لى كيف تتركون «بن بيلا» سجيناً وتسمحون بالانقلاب عليه وهو حليف مصر وصديق «عبدالناصر»؟ فتحفظت فى الرد برغم سنى الصغيرة وخبرتى المحدودة وقلت له ليس المهم الأفراد ولكن المهم هو أن تبقى الجزائر حرة ومستقرة! وأنا أعتقد الآن أن ذلك الرجل كان على صلة بالاستخبارات الجزائرية، لأن علاقات بلاده مع مصر وقتها كانت تمر بمرحلة قلقة بعد إقصاء «أحمد بن بيلا»، وأتذكر أيضاً أننى ذهبت إلى مدينة «قسطنطينة» بالقطار الذى استغرق مدة تصل قرابة تسع ساعات لزيارة عمى مبعوث الأزهر الذى كان شيخاً للمعهد الإسلامى فى تلك المدينة الرائعة التى تتميز بجسر معلق وتتداخل فيها الثقافات العربية والفرنسية والإسبانية، لقد تذكرت كل ذلك وأنا أتطلع إلى وجه الرئيس الجزائرى الأسبق «أحمد بن بيلا» الذى كان يبدو لى كالمتحف المتنقل والذى تفوح منه رائحة التاريخ الوطنى والنضال القومى، حيث لم تغير فيه لا سنوات الحكم ولا سنوات السجن شيئاً من طبيعته السمحة وشخصيته الطيبة وروحه السامية، وكثيراً ما يصطحب ذلك المناضل ابنته التى تحب القاهرة كثيراً فى تنقلاته المختلفة، خصوصاً أنه قد بلغ من العمر عتيا وأنا ممن يظنون، وليس كل الظن إثم، أن هناك حساسية تاريخية مترسبة فى العلاقة بين مصر والجزائر نلحظها فى مباراة لكرة القدم أو فى أحد المؤتمرات الأفريقية، لذلك لابد من نظرة موضوعية من الجانبين لتخطى أسباب هذا الخلاف، خصوصاً أننا نتذكر لكل منهما دوراً مشهوداً فى دعم الآخر، فمثلما دعمت مصر الثورة الجزائرية بالمال والسلاح، فإن الرئيس «هوارى بومدين» هو الذى جاء إلى القاهرة للقاء الرئيس الراحل «عبدالناصر» فى أعقاب نكسة 1967 ومعه «شيك على بياض» ذهب به إلى القادة السوفيت يطلب سلاحاً لمصر، كما أن هناك عسكريين جزائريين حاربوا فى صفوف الجيش المصرى حتى نصر أكتوبر 1973، فالعلاقة بين البلدين متكاملة ولا يجب أن تكون متنافسة.. هذه خواطر طافت بمخيلتى، وأنا أتذكر لقاءاتى مع المناضل الشامخ «أحمد بن بيلا».