«فيديريكو فيللينى.. سينما السحر والأحلام» كتاب أصدره مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، بمناسبة الاحتفال بمئوية ميلاد المخرج الإيطالى الشهير فيديريكو فيللينى، خلال فعاليات الدورة 42 التى تختتم اليوم الخميس. وقال مؤلف الكتاب الناقد السينمائى أمير العمرى إن «فيللينى» كان من أكثر السينمائيين الأوروبيين عموماً قرباً منا نحن أبناء الثقافة العربية، من عشاق السينما والمهتمين بها. فهو بمزاجه المتوسطى، مثلنا، يحب الألوان الصريحة القوية، والصور التى تزخر بالحركة والحيوية والحياة، كما يؤمن بالسحر والروحانيات والوجود اللا مرئى للأشياء، ولديه شعور راسخ بأننا لسنا وحدنا فى هذا العالم، ويرى أن القوانين الصدفة منطقها الخاص، لكن من دون أن ينحو نحو الفوضوية فكراً. وأضاف «العمرى» أن «فيللينى»، أيضاً، يرى أن السينما، أى ما نعتبره من الخيال، يمكن أن تكون بديلاً للعالم (الواقعى)، لكنه لا يعتقد أن الفيلم يجب أن يكون امتداداً للواقع، وهو لم يكن ينطلق فى عمله من خطة صارمة دقيقة، أو سيناريو تفصيلى دقيق محكم يحدد خطواته، بل كان يميل إلى ترك مساحة ما للارتجال، إلا أنه ليس فى الحقيقة ارتجالاً فوضوياً، بل استلهام فنى من الحالة الذهنية والشعورية التى يجد الفنان نفسه يعيشها، مع نفسه ومع المكان ومع الممثلين. وتابع «العمرى»: كان فيللينى يصنع أفلاماً للمتعة، لمتعته الشخصية ورغبته فى إمتاع المشاهدين، ولكن ليس معنى هذا أن أفلام فيللينى مجرد أفلام للتسلية على غرار أفلام هوليوود التقليدية، بل هى أفلام مركبة، تعكس أيضاً الكثير من أفكاره الفلسفية، ورؤيته الخاصة للعالم، لذلك فهو فنان سينمائى بالمعنى الكامل لهذا التعبير، ونموذج مثالى للمخرج- المؤلف، الذى يعبر عن أفكاره الخاصة من فيلم لآخر، ولهذا سنجد الكثير من الأفكار تتكرر فى أفلامه، فمصادرها واحدة. وأوضح «العمرى» أن فيللينى انطلق من «الواقعية الجديدة»، أى من عمله ككاتب سيناريو لعدد من أهم أفلام تلك الحركة فى الأربعينيات الماضية، أشهرها «روما مدينة مفتوحة» لعميد الواقعية الإيطالية روبرتو روسيللينى، لكنه سرعان ما ابتعد عنها فى أفلامه الأولى، مفضلاً التركيز على الشخصيات، وفحص «الفردية الذاتية»، وعلاقة الفرد بالعالم، فى عذابه وبحثه عن «الخلاص» غالباً بمفهوم دينى مرتبط بنشأة فيللينى الكاثوليكية، إلا أن فيللينى كان أيضاً متمرداً عظيماً على الكاثوليكية، على المؤسسة الدينية، ومناهضاً لسلطة رجال الدين، وقد أفصح عن ذلك فى معظم أفلامه. وكان ذلك التمرد ليس فقط على سلطة الكنيسة التى كثيراً ما وضعت العراقيل فى وجهه واعترضت على أفلامه، بل كان موقفاً متمرداً من «المؤسسة» بشكل عام. ورغم أن فيللينى كان دائماً ينأى بنفسه عن الخوض فى السياسة، ويجد نفسه فى ذلك وحيداً بين الغالبية العظمى من المخرجين الإيطاليين فى عصره، إلا أنه كان يسبب الإزعاج لكل من اليمين واليسار. فاليمين أزعجته جرأة فيللينى فى تصوير الجسد البشرى، والتدهور الأخلاقى لدى الشريحة العليا من البورجوازية، إلى جانب هجومه المستمر على الفاتيكان وطبقة الكهنة بوجه عام. أما اليسار فقد أغضبه عدم التزام فيللينى بقضايا الطبقة العاملة، وهو ما اعتبروه عجزاً عن التماهى مع شخصيات أفلامه من تلك الطبقة، مفضلاً الوقوف على مسافة منهم، يراقبهم ويرصد ردود أفعالهم، دون أن يتخذهم رموزاً لطبقتهم الاجتماعية، كذلك اتُهم من قبل بعض نقاد اليسار بالإغراق فى «الشكلانية» كونه يتلاعب كثيراً بالوسيط السينمائى، ويميل فى الكثير من أفلامه للغموض، وربما أيضاً، كما كان يرى الناقد الماركسى الإيطالى الشهير جويدو أريستاركو، أن تصويره لرغبة أبطال أفلامه فى الخلاص ينطلق من المفهوم الدينى وليس المفهوم «العلمانى»- على العكس من زميله ومعاصره، أنطونيونى، كما لم يكن يستند إلى أرضية الانتماء الطبقى. وعلى الرغم من ذلك ظل فيللينى أشهر وأهم أبناء جيله من المخرجين الإيطاليين جميعاً، داخل إيطاليا وخارجها، بسبب نجاحه فى خلق أسلوب خلاب، ساحر، يعتمد على التداعى الحر، وعلى استدعاء ذكريات الماضى، من الطفولة، يربطها بالحاضر، ويستند إلى أرضية قوية من التحليل النفسى، واعتُبر بالتالى أهم مخرج «حداثى» فى السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية. كان فيللينى يخلق لغة سينمائية جديدة، موازية للأدب الجديد والشعر الحر، يتخلى تماماً عن السرد الخطى التقليدى والبناء المحكم الذى يتصاعد إلى الذروة ثم يختتم بحل العقدة، بل يميل إلى تفكيك الفكرة، وإعادة تركيبها بطريقة لا تخضع للمنطق البسيط المباشر التقليدى، بل لما يشعر به الفنان الذى يقوم بعمليتى التفكيك والتركيب. وأشار الناقد أمير العمرى، فى كتابه، إلى أن سينما فيللينى تستند دائماً على عدة عناصر أو دعائم يمكن تلخيصها فى العلاقة مع الذكريات، الأحلام، السيرك، المدينة -ريمينى بلدته الأصلية، وروما التى عاش فيها طويلاً- وأخيراً علاقته مع المرأة، ونظرته الخاصة إلى الجنس، ولابد أننا سنلاحظ هنا غياب عامل السياسة والجدل السياسى رغم أن إيطاليا التى أخرج فيها فيللينى أهم أفلامه فى الخمسينيات والستينيات، كانت تشهد تحديات كبيرة، مشوبة بالتقلبات السياسية والاجتماعية بعد زوال الطفرة الاقتصادية التى شهدتها البلاد فى النصف الثانى من الخمسينيات، وحتى منتصف الستينيات، ثم دخولها النفق المظلم للإرهاب فى السبعينيات.