دبلوماسية «كورونا»

يسود اعتقاد لدى قطاع من الجمهور والمعلقين، مفاده أن الدول يجب أن تدير شؤونها المالية بالطريقة ذاتها التى تدير بها ربة منزل شؤون بيتها، بما يتضمنه ذلك من سد احتياجات الأسرة كاملة، والحصول على رضا أفرادها التام، قبل توجيه أى موارد لجوانب الترفيه، أو المجاملات العائلية، أو دعم الأسر غير القادرة.
من الممكن أن نتفهم هذا المنطق فيما يتعلق بإدارة الشؤون الأسرية بطبيعة الحال، لكن يصعب جدًا أن تنسحب المعايير ذاتها على تدبير سياسات الدول.
يبالغ بعض الناشطين على «السوشيال ميديا» فى استخدام تلك المقارنة الظالمة؛ فينتقدون الدولة مثلًا عندما تنشئ متحفًا ضخمًا، أو منتجعًا سياحيًا فاخرًا، أو منتدى ثقافيًا وفنيًا، أو توفر مخصصات لتجميل الميادين، بداعى أن ثمة من لا يجد قوت يومه، أو أن الفصول الدراسية فى مدارسنا تعانى من كثافة كبيرة، أو أن البعض يحتاج علاجًا ولا يجد سريرًا لائقًا فى مشفى للعلاج.
يختلف منطق الدولة عن منطق الأسرة بطبيعة الحال، كما تختلف الأخلاق السياسية عن الأخلاق الفردية، وتنشأ للدولة مطالب يجب أن تُخدم وتُصان، ولا تُحسب جودة السياسات، فى إطار تلبية تلك المطالب، بحجم تكلفتها ولا بصعوبة توفير التكلفة أو سهولة ذلك، وإنما تُحسب بقياس تلك التكلفة مقارنة بالعائد، وبمدى أهمية هذا العائد لخدمة مصلحة الدولة العليا.
وربما لمثل هذا نُسب لنابليون بونابرت قوله إن «قلب رجل الدولة يجب أن يكون فى رأسه»، ذلك أن كثيرًا مما يعتبره الشخص العادى منطقيًا فيما يخص إدارة شؤون حياته، سيختلف تمامًا عندما يتعلق الأمر بالسياسات العليا لإدارة دولة ما.
فى الأسابيع الأخيرة، عرفت حكومات إيران وتركيا ومصر انتقادات واسعة، خصوصًا على «السوشيال ميديا»، بالنظر إلى قيام تلك الحكومات بتقديم مساعدات لدول أخرى، بعضها متقدم وغنى، فى إطار مكافحة تداعيات فيروس «كورونا». أرسلت إيران معدات طبية كمساعدات لكل من أفغانستان وألمانيا ولبنان، رغم ارتفاع عدد الإصابات بها، واقترابها من تسجيل نحو سبعة آلاف وفاة، فى ظل انتقادات حادة للإدارة الحكومية للأزمة وكفاءة المنظومة الصحية.
وفى تلك الأثناء أيضًا، أقدمت أنقرة على إرسال مساعدات طبية لأكثر من ثلاثين دولة، من بينها الولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل، فى وقت تعانى فيه معاناة شديدة من اشتداد وطأة الفيروس على مواطنيها وعلى نظامها الصحى، ما جعلها أكثر دول المنطقة تضررًا من «كورونا».
قبل أسابيع، نشطت حملة على «السوشيال ميديا» مستهدفة قيام مصر بإرسال مساعدات طبية للولايات المتحدة، والصين، وإيطاليا، والسودان، وبريطانيا، وطالت انتقادات كثيرة زيارة وزيرة الصحة لكل من بكين وروما. اعتمدت تلك الحملة على سؤال بسيط بدا منطقيًا: «كيف تمنح مصر مساعدات لدول أكبر وأغنى، بينما تعانى من محدودية الموارد، وديون، وشكوك فى قدرة نظامها الصحى على مواجهة الجائحة؟». واعتبر البعض أن ما قامت به مصر فى هذا الصدد يعكس «خللًا فى التفكير» أو «سوء إدارة» أو «عدم إدراك لقيمة الموارد التى تم منحها كمساعدات»؛ وهو أمر لم يتوقف على ناشطى «السوشيال ميديا» فقط، بل تناولته أيضًا وسائل إعلام غربية وعربية، فى معرض التدليل على «عدم كفاءة الإدارة المصرية» و«سوء ترتيبها للأولويات». والواقع أن قيام دولة مثل إيران أو تركيا أو مصر أو الصين أو غيرها بإرسال مساعدات طبية إلى دول أخرى خلال أزمة الوباء، لا يعنى بالضرورة أن تلك الدول المانحة تتمتع باقتصادات قوية وأوضاع صحية متينة وفوائض مالية، ولكنه يعنى أنها تتصرف بمنطق الدولة الذى يقتضى تطوير وصيانة العلاقات الخارجية، لتحقيق أهداف تتصل بالمصالح العليا.
إرسال المساعدات فى أوقات المحن رسائل صداقة ومقاربات دبلوماسية، تعزز صورة الدولة، وتزيد قوتها الناعمة، وتحسن من تأثيرها فى سياسات الدول الأخرى، وهو أمر يصب فى تحقيق المصالح الوطنية، ولا يصح الاستهزاء به أو السخرية منه.