كثيرا ما أرجع البعض قوة الإخوان إلى تماسكهم التنظيمى وسيادة ثقافة السمع والطاعة داخلهم، وتحدث البعض الآخر عن توظيف الدين فى المجال السياسى بصورة تدغدغ المشاعر لا العقول، وأشار البعض الآخر إلى عمر الجماعة الطويل الممتد منذ 83 عاما بصورة أعطت لها خبرة فى التعامل مع النظم المختلفة ولو من أجل الاستمرار رغم الضغوط. وقد عرف الإخوان حياة داخلية مليئة بالتنوع الجيلى والفكرى، وامتلكوا مرجعية فكرية وسياسية مرنة سمحت لهم بأن يمتلكوا تصوراً شاملاً وعاماً للإسلام يسمح لهم بأن يكونوا سياسيين إذا أرادوا، وأن يكونوا دعاة فقط للأخلاق الحميدة إذا أحبوا، وأن يكونوا شيوخاً على منابر المساجد أو نواباً تحت قبة البرلمان، وأن يكونوا صوفيين وأن يكونوا أحيانا ثواراً، وأن يكون بين قادتهم القاضى المحافظ حسن الهضيبى والمناضل الثورى سيد قطب. وكثيرا ما أبدى البعض دهشته من الأسباب التى أدت إلى بقاء الإخوان المسلمين طوال تلك الفترة متماسكين ومحافظين على بنائهم التنظيمى، ومن قدرتهم على أن يتعايشوا معا رغم وجود هذا القدر الكبير من التباين الفكرى والجيلى. إن عبقرية حسن البنا التنظيمية مؤكدة، فقد أسس تنظيما متعدد المستويات، يضم من خارجه المحبين والمساعدين، ومن داخله العاملين والمجاهدين، وبقى صامدا أكثر من ثمانية عقود، ورغم اغتيال الشيخ المؤسس منذ أكثر من 60 عاما، فإن هذا الغياب لم يؤد إلى غياب مواز لفكرة الجماعة الدينية الاجتماعية التى هى ليست حزبا سياسيا بالمعنى المتعارف عليه، إنما هى جماعة دعوية أو هيئة إسلامية شاملة قد تمارس السياسة. والحقيقة أن هذه القراءة تمثل جانباً من فهم رحلة النجاح والإخفاق الإخوانى على مدار عقود طويلة، ولكن لا تفسر بالكامل أسباب قوتهم وانتشارهم، خاصة أن هذه القوة وهذا الانتشار كانا دائما يليان قوة رئيسية أخرى فى المجتمع على عكس الوضع الحالى الذى بدا فيه الإخوان وكأنهم القوة الرئيسية أو الأولى. إن انتشار جماعة الإخوان التنظيمى قبل ثورة يوليو لم ينعكس فى وزن أو تمثيل سياسى، وظلت دائما فى وضع يلى حزب الوفد فى الشعبية والتأثير، وتكرر الأمر نفسه بعد قيام ثورة يوليو، حيث تراجعت شعبيتها أمام الشعبية الهائلة لجمال عبدالناصر، بصرف النظر عن الصراع الدموى الذى جرى على السلطة بين الجانبين. إن المجتمع المصرى اختار الوفد قبل يوليو، وعبدالناصر بعد يوليو على حساب الإخوان، لأن كليهما قدم مشروعاً سياسياً بدا الأول رغم ليبراليته أنه ابن التربة المحلية المصرية، ف«الوفد» كان فى ضمير المصريين هو الحزب المنادى بالاستقلال والتحرر الوطنى وليس فقط حزب «الصالون الليبرالى» الذى يُناقش فيه أحدث النظريات الغربية فى الفلسفة والسياسة، كما كان يفعل حزب الأحرار الدستوريين الذى كان - كما يقول الكُتاب - ليبرالياً بامتياز، ولكن، كما يقول الواقع، كان الخاسر فى كل انتخابات نزيهة بامتياز. ف«الوفد» قدم نفسه باعتباره حزب الداخل (الوطنية المصرية والاستقلال والدستور)، تماما مثلما قدم الإخوان أنفسهم باعتبارهم تيار الداخل ولكن بالمعنى الإسلامى، ومع ذلك انتصر الأول لأنه آمن بقيم أكثر حداثة وديمقراطية من الإخوان المسلمين، وفى الوقت نفسه احترم القيم الدينية والثقافية ولم يوظفها فى المجال السياسى. وعاد عبدالناصر وكرر السيناريو نفسه ولكن بصورة مختلفة، حين بنى مشروعاً سياسياً شعر المصريون والعرب بأنه نابع منهم (العروبة والتحرر الوطنى والقومى والعدالة الاجتماعية) فتقدم على الإخوان فى الشعبية والقدرة على الإنجاز. أما مبارك، فقد قدم للناس «أمن الدولة» كمشروع سياسى فى الداخل، وأهان المصريين وتعامل معهم باستعلاء لم يروه طوال تاريخهم المعاصر، وقَبِل كل الإملاءات الإسرائيلية المهينة لكرامة أى دولة.. وحين يصبح مشروع الداخل يمثله مبارك بفساده واستبداده، وحين يخصم الوفد الجديد من الوفد التاريخى، والناصريون من عبدالناصر ونرى قوى سياسية عاجزة عن صياغة خطاب سياسى يعبر عن الداخل قيميا وثقافيا وسياسيا.. فإن قوة الإخوان فى هذه الحالة لن تكون بسبب قوتهم التنظيمية ولا خبرتهم فى التكتيك والمناورة إنما لتعبيرهم عن الداخل ولو بالمعنى الدينى والإسلامى، وفى ظل غياب أى مشروع سياسى يبدو فى أعين المصريين معبراً عن هويتهم ونابعاً من داخلهم وقادراً، فى الوقت نفسه على البناء والإنجاز السياسى والاقتصادى. إن التعاطف مع الإخوان الآن لا يأتى فقط - أو أساسا - من كونهم جماعة ترفع شعارات دينية، إنما لأنها جماعة تمول نفسها أساسا بأموال أعضائها، فى حين يهرع كثير من أعضاء الأحزاب للبحث عن فائدة أو مكسب من وراء انضمامهم لأى حزب جديد، كما أن هذا التدفق الهائل للأموال الأجنبية على كثير من جمعيات المجتمع المدنى يُشعر كثيراً من المصريين بأن هناك مؤسسات وقوى محيطة بهم هى امتداد للخارج، فى حين أنهم راغبون فى رؤية حزب أو تيار يمثل «الصناعة المحلية» الحقيقية بكل ما فيها من عيوب وأخطاء. ما لم ينشأ فى مصر تيار سياسى مدنى يشعر الناس بأنه خارج من تفاعلات الداخل السياسية والاقتصادية والثقافية، سيبقى الإخوان هم القوة الرئيسية فى المجتمع، نتيجة ضعف الآخرين أو إحساس المصريين بأنهم يمثلون شيئا وافدا عليهم. إن قضية الوافد والمحلى غير مرتبطة بالضرورة بالمرجعية الإسلامية، فلا وفد ثورة 1919 ولا عبدالناصر ثورة يوليو بنيا مشاريعهما على أساس هذه المرجعية ونجحا - ولو بالمعنى الشعبى - فى حين أن نجاح الإخوان محلياً على المستوى الشعبى لا يرجع لمرجعية الإخوان الإسلامية فى ذاتها إنما لكونها مرجعية تبدو فى ضمير الناس أصيلة وغير وافدة، فالقيم الإسلامية حاضرة بقوة فى ثقافة عموم المصريين، ولكن الخلاف سيبقى على شكل توظيفها فى المجال السياسى. وإذا نجحت تيارات إسلامية، ومعها تيارات أخرى فى اليمين واليسار، فى بناء مشروع يؤمن بالعروبة الثقافية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، فإنها ستعيد للناس مرة أخرى ثقتهم فى أنفسهم، وأن الثورة التى صنعت بالكامل داخل حدود مصر قادرة على تبنى نموذج حقيقى للنهضة، لا يحتكره فقط الإخوان المسلمون.