نشرت فى هذه الجريدة بتاريخ 15 أبريل 2011، مقالاً عن «العدالة الخاصة ومفهوم الدولة» بمناسبة قيام أحد الأفراد بتوقيع عقوبة جسدية على آخر لمزاولته ما اعتبره خروجاً على القواعد الأخلاقية والدينية. وقد حاولت أن أُوضح فى ذلك المقال خطورة الالتجاء إلى «العدالة الخاصة»، حيث يقوم بعض المواطنين بتنفيذ ما يعتقدون أنه تطبيق للعدالة، سواء باسم الدين أو غير ذلك من القيم الأخلاقية أو العقائدية. وكان الغرض من ذلك المقال هو التأكيد على أن العدالة هى من حقوق المجتمع وواجباته فى الوقت نفسه، والتى لا يجوز التخلى عنها للأفراد، ليقوم كل منهم بفرض عدالته الخاصة. ولذلك فليس لأحد أن ينتزع هذا الحق المجتمعى لنفسه تحت أى غطاء أو ادعاء. فمثل هذه الدعاوى قد تبدأ بدافع الحرص على الفضيلة أو القيم العليا، ولكنها تنتهى إلى تعريض المجتمع إلى الفوضى وانعدام «العدالة» نفسها. كذلك أوضحت فى ذلك المقال أن «العدالة» فى مضمونها الاجتماعى والوضعى هى احترام القوانين حيث يصبح تحقيق «العدالة» بهذا المعنى هو المسؤولية الأساسية للدولة ومبرر وجودها. ولا تملك الدولة التنازل لبعض الأفراد عن هذا الحق، بتركهم يقومون دون تفويض قانونى بتنفيذ «عدالتهم الخاصة». فالقانون التعبير العملى لمفهوم العدالة المعاصر. وإذا تصادف أن كان القانون القائم غير معبر عن العدالة كما هو فى ضمير الجماعة، فإن الطريق إلى الإصلاح هو تعديل أو تغيير هذا القانون وليس الخروج عليه. وإذا كنت قد طرحت فى ذلك المقال علاقة «العدالة الخاصة» بمفهوم الدولة، فإن هذا الموضوع يطرح فى الواقع قضية أكبر وهى العلاقة بين الأخلاق والقانون. فما هو دور الأخلاق فى المجتمع، وهل يكفى القانون وحده لحماية المجتمعات وتقدمها، أم أن للأخلاق دوراً مكملاً وضرورياً؟ وما هى الفواصل والحدود بين الأمرين؟ وهل هناك مصلحة فى تطابق القانون مع الأخلاق، أم أنه مع ضرورة مراعاة القانون للضوابط الأخلاقية، فمن المصلحة أن يظل للأخلاق مجال مستقل إلى جانب القانون؟ كل هذه أسئلة مهمة تستحق الاهتمام. درسنا فى كلية الحقوق العلاقة بين القانون والأخلاق كإحدى القضايا الأساسية لفهم معنى القانون. فالعلاقة بين الأمرين وثيقة ومركبة. وربما ولد مفهوم القانون نفسه من رحم الأخلاق، وذلك قبل أن يتطور ويكتسب لنفسه بعض الاستقلال وإن ظل وثيق الصلة بالأخلاق. فلا يمكن أن يكون القانون غير أخلاقى أو معادياً للأخلاق أو داعياً للرذيلة، وإن كان يمكن أن يكون محايداً ومنظماً لعلاقات اجتماعية لا صلة لها بالأخلاق. كذلك فإن القانون لا يعمل وحده فى المجتمع وإنما هناك الأخلاق إلى جانبه، ولكل منها مجال. كيف؟ يهدف كل من القانون والأخلاق إلى وضع ضوابط على السلوك الاجتماعى للأفراد وذلك بضمان عدم تعريض حقوق ومصالح ومشاعر الآخرين للإيذاء أو الإضرار. وإذا كانت «الأخلاق» مثالية الهدف، فإن «القانون» واقعى النزعة، يبحث عن تحقيق الممكن وليس بالضرورة المثالى. والفارق بين القانون والأخلاق كما انتهى إليه التطور التاريخى للمجتمعات هو أن مخالفة القانون تتضمن توقيع جزاء مادى على المخالف من جانب الدولة أو السلطة، فى حين أن مخالفة قواعد الأخلاق تستند إلى جزاء معنوى فى شكل ازدراء المجتمع مع ما يترتب عليه من شعور بالخزى والعار لدى الفاعل إزاء نفسه وفى مواجهة أفراد المجتمع من الأسرة أو القبيلة أو الحى والأصدقاء والمعارف. كذلك فإنه نظراً لأن القانون يطبق من جانب السلطة، فإنه لا يتعرض عادة للنوايا والأحاسيس الداخلية ويهتم فقط بما يظهر من أفعال أو امتناع عندما يلزم القيام بها. أما الأخلاق فإنها تعنى بالأفعال الخارجية كما تهتم بالنوايا والمقاصد الداخلية. فالإنسان يشعر بالذنب لمجرد النوايا السيئة أو المشاعر غير الكريمة. وهكذا يتضح أن الفارق الرئيسى بين القانون والأخلاق هو أن الأول وسيلة المجتمع من خلال سلطته السياسية لضبط استقرار وتقدم المجتمعات، فى حين أن الأخلاق هى تعبير عن ضرورة احترام القيم السائدة فى المجتمع وما استقر عليه الضمير العام من عادات وتقاليد. فالقانون هو «أداة» السلطة فى الحكم لتحقيق الاستقرار والتقدم، وهى تقوم على تنفيذ وضمان احترامه وتعريض المخالف للجزاء. أما الأخلاق فهى تعبير عن القيم والتقاليد التى استقرت فى ضمير الجماعة واللازمة للوصول إلى الفرد المثالى وتحقيق المجتمع الصالح، ومخالفة هذه القواعد تعرّض صاحبها لازدراء الجماعة وسخطها. وفى الجماعات البدائية يختلط القانون بالأخلاق. بدأ ظهور القانون وتميزه عن الأخلاق، عندما بدأت تتبلور السلطة السياسية داخل الجماعة فى شكل شيوخ أو حكماء الجماعة الذين يتولون فرض احترام القواعد الأخلاقية السائدة فيها، مع توقيع الجزاء على المخالف. وقد ظهر مفهوم القانون، أول الأمر، باعتباره نوعاً من العرف الأخلاقى السائد والمقبول. وبذلك بدأ ظهور القانون كجزء من الأخلاق كما تمثلها الأعراف والتقاليد السائدة، وبذلك بدأ القانون على شكل تقنين لأعراف مستقرة ومقبولة. وبعد فترة من استقرار سلطة الحكم فى الجماعة، بدأت تتميز طبقة الحكام الذين لا يكتفون بتطبيق الأعراف الموروثة بل يصدرون الأوامر واجبة الاحترام، شأنها فى ذلك شأن قواعد العرف المستقرة. وبذلك بدأت أوامر الحاكم تأخذ حكم التقاليد والأعراف فى ضرورة الخضوع لها. ومن هنا أصبح القانون أيضاً هو أمر الحاكم. ومع ظهور الدولة الحديثة، خاصة مع تطور المجتمعات الصناعية، لم يعد من الممكن الاقتصار على العادات والتقاليد لمواجهة احتياجات الحياة فى ظل سرعة التطورات وتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية. وبذلك ظهرت الحاجة إلى ضرورة التنظيم للأوضاع الجديدة عن طريق الأوامر والتشريعات. وأخيراً جاءت الثورات الشعبية التى تطالب بالحكم من خلال ممثلين للشعب فى المجالس البرلمانية وحيث تصدر القوانين من خلال التشريع من هذه المجالس المنتخبة. وهكذا بدأ القانون يستقل عن قواعد العرف والعادات ولم يعد ملحقاً بها، وإنما أصبح أداة الحكم فى تنفيذ سياساته، كما أصبح التشريع هو المصدر الرئيسى للقانون. ومع هذا التطور فى شكل القانون فقد استمر المجتمع من خلال الأخلاق فى القيام بدوره الأصيل باعتباره الأمين على المثل العليا والقيم السامية. والآن وبعد هذا التطور، يثور التساؤل عن العلاقة بين الأخلاق والقانون، فهل يتطابقان؟ وهل يقومان بنفس الوظائف أم أن لكل منهما وظائف مختلفة؟ وإذا كانت هذه الوظائف مختلفة، فهل هى متعارضة أم متكاملة؟ فأما من حيث النطاق فإن نطاق القانون أضيق أحياناً وأوسع أحياناً أخرى من نطاق الأخلاق. فرغم أن كلاً من القانون والأخلاق يسعيان إلى تحقيق السلوك السليم فى المجتمع، فإن القانون لا يعنى بكل مظاهر السلوك السليم ويقتصر فقط على الأمور ذات العلاقة بالمجتمع التى يمكن أن تعكر الاستقرار والتقدم الاجتماعى. كذلك فإن القانون وهو يهدف إلى حماية الحريات العامة فإنه يحرص على حماية حرمة الحياة الخاصة للفرد طالما لا يترتب عليها إزعاج للآخرين. أما الأخلاق فإنها تهتم بكل ما يتعلق بالسلوك السليم، وسواء تعلق بحياته الخاصة أو بعلاقاته مع الآخرين، فالأخلاق تتعلق بكل ما يصدر عن الفرد من تصرفات أو حتى أحاسيس. ورغم أن الكذب مثلاً هو أصل كل الآفات الاجتماعية، فإن القانون لا يجرم الكذب بشكل عام، وإنما فقط فى الأحوال التى يترتب عليها أضرار واضحة على المجتمع، كما فى حالة التزوير أو الإدلاء ببيانات كاذبة أمام السلطات العامة وغير ذلك مما ينطوى على مخاطر تعرض مصالح الجميع لأضرار. أما الكذب الصغير، كادعاء المرض أو إبداء عذر عائلى كاذب لعدم الوفاء بوعد أو عهد، فهذه مخالفة أخلاقية وإن لم تكن مخالفة قانونية. والسبب فى هذا الاختلاف بين موقف القانون وموقف الأخلاق تجاه مثل هذه المخالفات، هو اختلاف دور القانون عن دور الأخلاق فى المجتمع. فالهدف من القانون هو تحقيق مصلحة المجتمع مع احترام خصوصية الحياة الداخلية للأفراد وحرياتهم الشخصية. فهدف القانون هدف اجتماعى منفعى بحت يقارن بين المكاسب بالخسائر الاجتماعية. أما الأخلاق فإنها لا تقتصر على تحقيق المصالح الاجتماعية ولكنها تسعى إلى الارتقاء بالفرد وتطهيره من جميع الآثام، وذلك بالسعى للوصول إلى الإنسان المثالى والمجتمع الفاضل. فهدف القانون هو تحقيق مصالح المجتمع، أما الأخلاق فهدفها الارتقاء إلى الإنسان الصالح. ولك أن تتصور كيف تصبح الحياة عسيرة إذا تدخل القانون بفرض عقوبة على كل كذبة مهما صغرت. فتعاتب صديقك على عدم حضوره فى موعد اتفق عليه، فيدعى أنه كان مريضاً أو أنه أرسل لك اعتذاراً، وتعرف أنه كاذب فتتجاوز عن مغالطته، وإن فقد لديك جزءاً من الاحترام. هذا هو الموقف القانونى. ولكن تصور ما يحدث إذا تدخل القانون بتجريم هذا الفعل؟ فإذا بك فى هذه الحالة تطلب الشرطة والنيابة للتحقيق فى صحة ادعائه، هذا يجعل الحياة بالغة الصعوبة. ولذلك فلم يكن غريباً أن جميع الأديان السماوية، وهى تنهى كلها عن الكذب وتعتبره أسوأ النقائص، فإنها كلها لم تضع جزاء دنيوياً على الكذب كما القتل أو السرقة أو الزنى، وذلك لاعتبارات عملية. فجزاء الكذب، عادة، هو جزاء دينى وأخلاقى. وهكذا فإن القانون لا يسعى إلى تحقيق المجتمع المثالى، وإنما فقط المجتمع القابل للحياة والتقدم وإن لم يكن مثالياً. وهنا يأتى دور الأخلاق لتربية النشء والأجيال الجديدة على مكارم الخُلق، فالمجتمعات لا ترقى إلا بالمثل العليا للأفراد. وهذه هى وظيفة الأخلاق، وهى تهذيب الفرد والارتقاء به. والجزاء الأخلاقى هو جزاء اجتماعى بامتعاض المجتمع وازدرائه. وليس هناك أسوأ من ازدراء المجتمع واحتقاره للسلوك غير الأخلاقى. ولذلك فإن اقتصار القانون على بعض الجوانب الأخلاقية ذات النتائج الاجتماعية الضارة دون غيرها ليس تبريراً للسلوك غير الأخلاقى، وإنما هو اعتراف بأن دور الأخلاق ومسؤولية المجتمع فى هذه الأحوال أكثر فاعلية. فالقانون هو أداة السلطة لضمان استمرار المجتمع وتقدمه، أما الأخلاق فإنها أداة المجتمع للارتقاء بالإنسان والاقتراب من المجتمع المثالى. وإذا كان مجال القانون يتلاقى مع مجال الأخلاق فى العديد من مظاهر السلوك الاجتماعى، فإن للقانون مجالات أُخرى مهمة فى المجتمع لا تعرفها الأخلاق. فالقانون ينظم الحياة الاقتصادية والسياسية للمجتمع، وهو يضع قواعد للمرور بالسير على اليمين لتنظيم عملية المرور دون أن يمكن القول إن السير على اليمين أكثر أخلاقية من السير على اليسار. ولكن المطلوب هو أن توضع قواعد مقبولة ومحترمة من الجميع للسير. وبالمثل ينظم القانون ممارسة المهن وتنظيم التعامل فى الأوراق الرسمية أو شكل المستندات القانونية أو مباشرة النشاط الاقتصادى أو أسلوب إدارة المؤسسات أو اختصاصاتها، وهكذا. وهذه كلها أمور ضرورية لتقدم الحياة المدنية دون أن تكون لها صلة مباشرة بالأخلاق. لا غنى لأى مجتمع سليم عن القانون والأخلاق معاً، وليس أحدهما بديلاً عن الآخر، كما لا يمكن الاستغناء عن أيهما. فالقانون تضعه الدولة وترعاه لسلامة المجتمع، فى حين أن الأخلاق هى وظيفة المجتمع ومسؤوليته لرقى الفرد وسموه. وظاهرة «العدالة الخاصة» لا تعدو أن تكون محاولة من بعض الأفراد لفرض وصاية الأخلاق على القانون. وبالمثل فإنه يُخشى أن تؤدى المطابقة بين القانون والأخلاق إلى إهدار وظيفة كل منهما، وبما يهدد بإفسادهما معاً. والله أعلم. www.hazembeblawi.com