لا خلاف على المبدأ القائل بضرورة احترام الأقلية لقرار الأغلبية، لأنه يشكل القاعدة الرئيسية التى يستند إليها كل نظام ديمقراطى. لكن ما الذى يعنيه هذا المبدأ بالضبط؟ إنه فى الواقع مبدأ كاشف عن وجود آلية فعالة ومتفق عليها لحسم الخلافات بين القوى السياسية المتنافسة على السلطة والثروة فى النظم الديمقراطية. وتتمثل هذه الآلية فى وجوب الاحتكام إلى صناديق الاقتراع فى كل مرة تدعو الحاجة إلى ذلك، سواء تعلق الأمر باختيار ممثلين عن الشعب أو بمعرفة رأيه فى قضايا خلافية مطروحة للنقاش على بساط البحث وتحتاج لحسم. ومعنى ذلك أن تصويت الأغلبية هو الفيصل فى العملية الإجرائية الرامية لتحويل وجهات النظر المتنافسة على الساحة إلى سياسات وتشريعات وقوانين وإجراءات ولوائح قابلة للتنفيذ. غير أن هذه «العملية الإجرائية» لا تعنى أن الأغلبية دائما على حق، وأن الموقف الذى تعبر عنه أو تنطق به أو تنحاز إليه هو الموقف الصحيح بالضرورة والأكثر تحقيقا للنفع أو للصالح العام، وأن الموقف الذى تبنته الأقلية كان هو الموقف الخاطئ بالضرورة. فالحكم النهائى على صحة أو خطأ موقف أو سياسة ما لا يتأتى إلا لاحقاً وبعد الإحاطة التامة بآثاره ونتائجه الفعلية على الأرض، ومن ثم يترك أمره للتاريخ غالبا، فهو وحده الكفيل بإصدار الحكم النهائى له أو عليه. والتاريخ ملىء بالأمثلة الدالة على أن الأغلبية ليست، دائما وبالضرورة، على حق، ويثبت أن موقف الأقلية الذى تبنته كان هو الموقف الصحيح، مثلما حدث فى فرنسا، على سبيل المثال، عقب هزيمتها من ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية، فبعد هزيمتها عسكريا، اضطرت فرنسا إلى توقيع اتفاقية هدنة مع ألمانيا فى 22 يونيو 1940، قُسّمت بموجبها إلى منطقتين: الأولى خضعت لسلطة الاحتلال الألمانى، بينما خضعت الثانية، اسميا على الأقل، للسيادة الفرنسية. وفى 10 يوليو من العام نفسه، انعقدت الجمعية الوطنية فى مدينة «فيشى» وصدقت على اتفاقية الهدنة لكنها وافقت فى الوقت نفسه، وبأغلبية كاسحة بلغت 569 صوتا (مقابل 80 وامتناع 18 عن التصويت)، على اقتراح يقضى بتفويض رئيس الحكومة صلاحيات تشريعية تمكنه من إصدار دستور جديد للبلاد، زين له طريق التعاون مع قوات الاحتلال تحت شعار «الواقعية السياسية»، غير أن التاريخ أثبت لاحقا، وبما لا يدع مجالا لأى شك، أن هذه «الأغلبية» لم تكن تعبر عن الشعب الفرنسى الذى انحاز عمليا بعد ذلك إلى «القلة» التى رفعت شعار المقاومة المسلحة ورفضت الاستسلام للاحتلال الألمانى، وتمكنت فى النهاية من تحرير فرنسا تحت قيادة الجنرال ديجول. تحتاج المجتمعات، فى لحظات التحولات الكبرى، التى عادة ما تعقب الحروب العسكرية والثورات الشعبية، إلى من يعينها على إدراك عمق مغزاها ويعرف كيف يستثمرها لإحداث نقلة نوعية. وفى التاريخ المصرى لحظة هزيمة، تمكن الشعب من تحويلها إلى لحظة صمود مهدت الطريق نحو النصر، وهو ما حدث حين خرج الشعب يومى 9 و10 يونيو ليرفض هزيمة 67 ويطلب من عبدالناصر أن يبقى فى موقعه ويستعد للثأر. وفيه أيضا لحظة انتصار، أساء صانع القرار استثمارها، فمهد لهزيمة شاملة دفع الشعب المصرى ثمنها فادحا طوال السنوات الثلاثين السابقة. وها هو التاريخ يتيح لمصر من جديد، عقب ثورة 25 يناير الكبرى، لحظة تستطيع فيها إحداث نقلة نوعية كبرى فى اتجاه المستقبل، لكنها على وشك أن تفلت منا. أذكر أننى كتبت مقالا تحت عنوان: «حتى لا تحدث ثغرة جديدة فى معركة العبور الثانية» نشر فى هذا المكان بتاريخ 6 مارس اليوم، أى بعد حوالى ثلاثة أسابيع فقط من إسقاط الرئيس السابق، عبرت فيه عن مخاوفى من احتمالات إجهاض هذه الثورة الكبرى ومنعها من تحقيق كامل أهدافها، وذلك بإحداث ثغرة مشابهة لتلك التى فتحتها القوات الإسرائيلية فى الدفرسوار وعبرت منها إلى الضفة الشرقية للقناة، فى محاولة للالتفاف على الجيشين الثانى والثالث ومحاصرتهما، وهو ما حدث بالفعل. فلم يعد لدى أدنى شك فى أن الثغرة التى كنت أخشاها قد وقعت بالفعل، وأن الاستفتاء الذى نظم فى 19 مارس الماضى، والذى أثار وقتها ولا يزال جدلا هائلا، كان هو اللحظة التى اتضح فيها أن ثغرة قد حدثت وأنها بدأت تشق طريقها فى اتجاه اللا عودة.. لعب دورا محوريا فى تحديد طريقة إدارة المرحلة الانتقالية. فالاستفتاء جرى على تعديلات دستورية لعدد من المواد، بدا لكثيرين أنها تتمحور فقط حول الضمانات المتعلقة بنزاهة الانتخابات وفتح الطريق أمام ترشح المستقلين فى الانتخابات الرئاسية، غير أنه احتوى فى حقيقة الأمر على خارطة طريق تضمنت آليات محددة لإدارة المرحلة الانتقالية، رأى البعض - وكنت واحدا منهم - أنها تشكل خطرا يهدد بالالتفاف على الثورة تمهيدا لإجهاضها. وعندما بدأ النقاش يتسع حول تحفظات البعض على هذه التعديلات، فوجئنا بالجدل المحتدم يتحول، ودون أى مبرر موضوعى، إلى صراع أخذ بعدا طائفيا، متخذا من المادة الثانية من الدستور تكأة له، ونزلت التيارات الإسلامية، على اختلاف ألوانها وأشكالها، إلى الساحة لحشد أنصارها من أجل الانتصار فى «غزوة الصناديق». وكانت نتيجة الاستفتاء - الذى لا يمكن لأحد أن يشكك فى دقته الرقمية - حصول الجانب المؤيد للتعديلات على أقل قليلا من 78% والجانب الرافض لها على أكثر قليلا من 22%، أى أن الأغلبية الساحقة قالت «نعم» للتعديلات والأقلية قالت «لا». فما الذى تعنيه هذه النتيجة بالضبط؟! لا أريد هنا أن أتوقف عند دلالات التصويت، أو عند الأسباب التى دفعت شرائح شديدة الاختلاف والتباين فى مواقفها السياسية والأيديولوجية للتصويت أحيانا ب«نعم» وأحيانا ب«لا»، فقد سبق لى من قبل أن قمت بهذا النوع من التحليلات، لكننى أريد هنا أن أتوقف عند نتائجه العملية، خصوصا ما يتعلق منها بمعالم خارطة الطريق المنصوص عليها ضمنا فى التعديلات الدستورية التى تم إقرارها والتى تتضمن أربع خطوات رئيسية: 1- تنظيم انتخابات لمجلسى الشعب والشورى أولا، من المتوقع أن تجرى فى شهر سبتمبر المقبل. 2- قيام الأعضاء المنتخبين فى مجلسى الشعب والشورى باختيار لجنة تأسيسية من 100 عضو، تكلف بوضع دستور جديد للبلاد، ومن المتوقع أن تنتهى من هذه المهمة بعد شهرين من تاريخ الانتخابات البرلمانية على أحسن الفروض، أى فى نهاية نوفمبر أو أوائل ديسمبر. 3- إعداد وإقرار الدستور الجديد بعد طرحه على الاستفتاء، وهو عملية من المتوقع أن تستغرق ستة أشهر تنتهى فى مايو أو يونيو 2012. 4- فتح باب الترشح لرئاسة الجمهورية، ثم إطلاق الحملة الانتخابية إلى أن يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو مسألة تحتاج من 3 إلى ستة أشهر على الأقل، ومعناه أنه لن يكون هناك رئيس جديد لمصر قبل شهر سبتمبر أو ديسمبر من عام 2012. إن أى إجراء يتخذ وفقا لما هو مرسوم فى هذه الخريطة سيكون دستوريا وقانونيا، ومن ثم ملزما للجميع، بما فى ذلك الأقلية التى صوتت ب«لا». ولأننى كنت ومازلت ضمن هذه «الأقلية»، فقد سبق لى أن أعلنت وأعلن مجددا احترامى الكامل لرأى الأغلبية، وبالتالى التزامى بما ستسفر عنه من نتائج، بشرط أن تجرى طبعا وفق صحيح القانون. لكن السؤال: هل ستفضى بنا هذه العملية السياسية إلى نظام ديمقراطى حقيقى مكتمل الأركان؟ أشك كثيرا. لا أعرف لماذا حاول البعض تصوير احتمال حصول تيارات الإسلام السياسى على أغلبية المقاعد المنتخبة فى مجلسى الشعب والشورى وكأنه يشكل أهم المخاطر المترتبة على استخدام هذا النهج فى إدارة المرحلة الانتقالية؟ فالواقع أننى لا أخشى مطلقا هذا الاحتمال، وسيشكل على أى حال، إن حدث، انتكاسة كبرى لعملية التحول نحو الديمقراطية. الاحتمال الأخطر فى تقديرى أن تستغل فلول النظام القديم هذه السيولة التى تتسم بها إدارة المرحلة الانتقالية على هذا النحو، والتى ستطول أكثر بكثير مما قدرها المجلس العسكرى فى البداية، ودون أن تمارس أى رقابة قانونية أو شعبية حقيقية على أداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلالها. الالتزام برأى الأغلبية ليس معناه أن على الذين صوتوا إلى جانب الأقلية، وأنا واحد منهم، أن يغيروا من قناعاتهم أو أن يعترفوا بأن موقفهم الرافض للتعديلات الدستورية كان خطأً يتعين تصحيحه أو إثما يتعين «التوبة» عنه، فالواقع أن كل يوم يمر يؤكد أن رأى الأغلبية سيقودنا جميعا إلى مأزق، وأن النهج الذى اعتمده الاستفتاء لن يوصلنا إلى الهدف الذى لا يتعين أبدا أن يكون محل خلاف بيننا، ألا وهو الاتفاق على قواعد إدارة اللعبة فى النظام السياسى الجديد، والذى يتعين أن يكون كامل الديمقراطية ويتسع لمشاركة الجميع دون استبعاد أحد. وقد قيل لنا فى تبرير النهج الذى طرح للاستفتاء وحاز الأغلبية إنه: 1- يختزل فترة المرحلة الانتقالية إلى أدنى حد ممكن، وبالتالى يحول دون «طمع» العسكر فى الحكم. 2- أن يوفر فرصة المشاركة للجميع، ويحول دون إعادة إنتاج نظام الفساد والاستبداد مرة أخرى. وكان هذا هو بالضبط دافعى، ومنذ اليوم الأول لسقوط النظام، لاقتراح آلية محددة لإدارة المرحلة الانتقالية تنطوى على: 1- مجلس رئاسى برئاسة المشير طنطاوى وعضوية أربعة من المدنيين، يتولى تحديد البوصلة العامة والخطوط العريضة لاستراتيجية مصر المستقبلية، ويتولى كل منهم الاستعانة بمن يشاء من خبرات للقيام بالدراسات المطلوبة. 2- حكومة برئاسة شخصية تملك رؤية سياسية مستقلة وتقف على مسافة واحدة من جميع الأحزاب، وتتولى تنظيف ركام النظام القديم من ناحية، واقتراح وإصدار التشريعات اللازمة بتأسيس نظام سياسى جديد بعد التشاور مع المجلس الرئاسى، من ناحية ثانية، وإقرارها من جانب برلمان مؤقت، من ناحية ثالثة. 3- برلمان مؤقت يتكون نصفه من أعضاء البرلمان الشعبى، ونصفه الآخر من ممثلين عن شباب الثورة والقيادات النقابية والعملية والمهنية المنتخبة والممثلة لمؤسسات المجتمع المدنى. فهل لنا أن نتعاون معا لوضع خارطة طريق لبناء نظام يتسع للجميع دون مزايدة؟!