بعد خلع الرئيس مبارك، رأى البعض أن الثورة قد نجحت وأنه قد آن الأوان للثوار أن يستريحوا تحت ظلال الزيزفون. قد يكون هذا البعض أنا، وقد يكون أنت. لكن هل أنت واثق أن هذا قد يكون رأي شهداء الثورة لو أنهم كانوا بيننا الآن؟ لقطات فلاشباك كفيلة بالإجابة على هذا السؤال. السبت 12 فبراير كان يوماً متفرداً في التاريخ، فهو صبيحة أول أيام مصر بدون مبارك! كان الميدان لم يتغير كثيراً، فقط كانت مظاهر البهجة تعلو وجوه الجماهير في غير مباريات كرة القدم. الشرطة العسكرية تتعامل بلطف مع الناس وسط محاولات لإقناع المتظاهرين بالرحيل مع حلول الظلام. بعض اللافتات والشعارات الجديدة رفعت بعد سقوط المخلوع، وألاف المواطنين يلتقطون الصور التذكارية مع الدبابات والجنود! كانت هذه ليلة حاسمة بالنسبة للجيش، فقد قرر وقتها أن تعود حركة المرور إلى الميدان يوم الأحد. وهذا بالطبع يعني إخلاء الميدان من المعتصمين، وهو ما استجاب له البعض ولم يقم بالبيات هناك .. وكنت من بينهم. في الصباح عدت إلى الميدان لأجد السيارات قد انهمرت إلى هناك من جديد، مع الإبقاء على المتظاهرين في ركن محدود محاط بالشرطة العسكرية. كان مشهداً مختلطاً: المعتصمون على حالهم عند المنصة الرئيسية يهتفون ويصرخون طلباً للثأر من القتلة، ومواطنون يتجادلون مع بعضهم البعض حول جدوى استمرار الثورة، وآخرون واقفون على الأرصفة يتفرجون في صمت. كانت عدسات وسائل الإعلام تملأ المكان، في حين انطلق جمع غفير من الشباب ينظفون الميدان ويدهنون الأرصفة بالأبيض والأسود. في هذه الأثناء، فوجئنا بمجيء مظاهرة إلى الميدان يقودها ضباط الشرطة وهي تهتف: الشعب والشرطة إيد واحدة .. الشعب يريد إخلاء الميدان. كان عدد من الشباب متواجداً في هذه المظاهرة، وتزعموا الهتاف ضد المعتصمين الذين تبقوا في الميدان. حينها سألت نفسي: هل شارك هؤلاء في الثورة أصلاً حتى يخرجوا الآن ليهتفوا باسم الشعب؟ هل مات شباب مصر على أيدي قناصة الداخلية وتحت سيارات الأمن المركزي وبرصاص الضباط حتى يبقى حال البلد كما هو فقط يختفي مبارك عن الأنظار؟! أدركت وقتها أن أياً من هؤلاء الذين يتحرشون بالثوار لم يوقعوا بكلمة واحدة على بوسترات الشهداء التي كانت معلقة هناك واختلطت فيها صور المسلمين مع المسيحيين. كانت أكثر التوقيعات الراقية المؤثرة التي لفتت نظري على هذه البوسترات: أنت البطل لا أنا .. سقط دمك وسقط ماء وجهي! الثورة حققت الصعب .. فلماذا لم تحقق السهل؟ الصعب هو القبض على اللصوص والمجرمين والقتلة والخونة، والسهل هو إصدار الأحكام العادلة ضدهم جزاء فسادهم وقتلهم وخيانة شرف بلدهم. الصعب هو الإطاحة بمبارك، لكن السهل تقديمه للمحاكمة. الصعب هو تحديد المخططين والمنفذين لموقعة الجمل وعناصر الداخلية الضليعة في قتل المتظاهرين، لكن السهل القصاص منهم والثأر لشهداء مصر. لكننا بعد ما يزيد عن الثلاثة شهور منذ تنحي المخلوع، نجد الموضوع في آخر المطاف يتلخص في بضعة مليارات يمكن أن يلقيها المجرمون في وجوه الشعب ليفدوا بها أنفسهم من العقاب! وكأن دماء الشباب البريء سال على شوارع مصر بحثاً عن حفنة من المال! حينما أجد المواطن حسني مبارك يقيم في الجناح الطبي الفاخر بمملكة شرم الشيخ بدلاً من الحبس في سجن طره كغيره من المواطنين، وحينما أجد المواطنة سوزان ثابت تنهار نتيجة للوضع الجديد لأسرتها فترق لها جهات التحقيق، وحينما أجد فلاناً وعلاناً يخرجون من الحبس بكفالات، ويتم إخلاء سبيل المتهمين بقتل المتظاهرين .. وحينما أجد المجلس العسكري يعتمد أحكاماً فورية بالسجن للمعتقلين في يوم إخلاء الميدان بالقوة وفي مظاهرات ماسبيرو وفي مظاهرات السفارة الإسرائيلية، في الوقت الذي تكاد تنفجر فيه عروقنا من تباطؤ القصاص وتأخير قضايا الدم بعد قضايا المال وإدخال الجماهير في دوامة عجلة الإنتاج والاقتصاد .. حينما أجد كل هذا يحدث في مصر بعد الثورة، لابد لي أن أستحضر روح الثورة من جديد. إن ما حققه الثوار بأرواحهم ودمائهم في 18 يوماً، لم تحققه القرارات ولا الاجتماعات على مدار عشرات السنين. فإذا كانت الدولة الآن عاجزة عن الإسراع بعجلة الإنتاج والاقتصاد، فلتدفع عجلة العدالة والقانون أولاً. حينها ستجد أنها بدأت تعود إلى الطريق الصحيح.