تعالت الصرخات بعد الثورة بضرورة محاسبة كل من تسبب في إفساد كل مناحي الحياة في مصر (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا) قبل 25 يناير, وحاول حرقها لإجهاض الثورة بعد 25 يناير. لقد استعدنا وطننا بعد هذه الثورة العظيمة في مشهد تاريخي فريد, وعندما أصبحت مصر في أيدينا وقفنا مشدوهين مندهشين لا ندري ماذا نفعل, فقد أصابتنا الثورة التي لم نقصدها بعدة مفاجآت تسببت في مشهد الحيرة والتخبط الذي نعانى منه الآن. المفاجأة الأولي: خرج المصريون غاضبون من تردى أحوالهم واغتصاب وطنهم, فتحولت الانتفاضة (دون سابق ترتيب وتنظيم) إلى ثورة عارمة ندر مثيلها في التاريخ الإنساني. المفاجأة الثانية: سرعة سقوط النظام الذي خدعنا عبر عقود بقوته المزيفة التي تبين أنها قناع يواري جسد تفشى الفساد في مفاصله فأصبح آيل للسقوط في أي لحظة. المفاجأة الثالثة: حجم الفساد الذي نخر في جسد الأمة, ثم تحول خارج الجسد (بعد أن أنهكه تماما) كي يختلط بالهواء فنتنفسه جميعا, رضينا أم أبينا. وهنا استطيع أن أجزم أن غالبيتنا (إن لم نكن جميعا) قد فسد أو ساهم في الفساد جراء حياته في مجتمع تدنت فيه كل قيم الأخلاق وانسحب فيه الضمير خارج حدود أرواحنا. هذه المفاجآت كانت كفيلة بدخولنا في حالة التخبط التي تعصف بحياتنا الآن, وكأننا مثل ركاب سيارة يقودها مجموعة من الأشخاص, الركاب بعضهم نائم وبعضهم غافل, قادة السيارة برعونتهم وتكبرهم وسوء ضمائرهم ساروا بها في صحراء قاحلة حتى أوصلوها إلى حافة جبل شاهق فكادت تسقط في هاوية سحيقة, ولما تنبه بعض الركاب للخطر الداهم الذي يحيط بهم, وصرخوا في وجه من كان يقود, حاول هؤلاء القادة الفرار من السيارة المشرفة على الهلاك, فماذا كان تصرف الركاب؟ بعض الركاب هرول خلف الفارين يحاول اللحاق بهم والقصاص منهم, ولما امسكوا بهم وقيدوا حركتهم, جلسوا أمامهم يتساءلون: ماذا نفعل بهؤلاء الأسري؟. نسوا أو تناسوا سيارتهم التي إن تهاوت لن يجدوا وسيلة أخرى توصلهم إلى العمار وتنقذهم من هذه الصحراء المدمرة, وحتما سيقضى الجوع والعطش عليهم, هم وأسراهم الذين فرحوا باللحاق بهم, فأعمتهم الفرحة عن الخطر المحدق بالجميع. بعض الركاب تجمعوا حول السيارة مطالبين بسيارة أخرى توصلهم إلى المدينة, فهذا حقهم طالما دفعوا للسائقين أجر توصيلهم. هؤلاء غابت عقولهم من وقع الصدمة فهم لا يدرون أنهم في صحراء ليس فيها غير هذه السيارة التي قاربت على السقوط والدمار, وأن السائقين مقيدين لا حول لهم ولا قوة, وأن إنقاذ السيارة وقيادتهم لها هو الحل الوحيد لوصولهم إلى مبتغاهم, فقد أصبحت السيارة لهم ولا أحد غيرهم سوف يقودها. بعض الركاب يحاول الدفع بالسيارة في الاتجاه الخطأ ظنا منهم أن في ذلك إنقاذ لها, يساعدهم في هذا بضعة أشخاص من معاوني السائقين السابقين الذين يريدون الانتقام لأولياء نعمتهم المأسورين المهانين. أيضا هؤلاء طُمست عقولهم فهم لا يعلمون أنهم هالكون مع باقي الجمع في تلك الصحراء طالما لا توجد سيارة. الفئة الأخيرة من الركاب مازالت قابعة داخل السيارة, بعضهم يبكي حاله قبل فرار السائقين عندما كانت السيارة تسير وهناك أمل في الوصول إلى المدينة, فيرد عليهم آخرون ممن بجوارهم داخل السيارة المعطوبة: خدعوكم بأن السيارة تسير, وكل شيء على ما يرام, وكانت تسير في الطريق الخطأ ولن توصلكم أبدا إلى المدينة, بل هو تيه في الصحراء نهايته الموت, فلا تبكون على ما كان. هذا هو واقعنا الآن لمن لا يري, ولكن ما السبيل يا أهل المحروسة للعودة بها من الصحراء المسكونة بالأهوال والمخاطر إلى أحضان نيلها وأمان ضفافه. أكثر ما نحتاج إليه في ظل ما يحيطنا من لغط, فئة مازال عقلها يعمل وقلبها ينبض كي يلتف حولها كل الركاب, وندفع بالسيارة في الطريق الصحيح, فننجو جميعا. كلنا شارك مع الفاسدين, بالتقاعس والتكاسل والاستسهال وعدم كبح بؤر الفساد داخلنا, وجاءت صرخة الثورة فانتبهنا جميعا إلى فداحة ما كنا فيه وما كان فينا, فلنكن على قدر عظمة الحدث الذي صنعته ثمار النقاء بين أغصاننا التي كادت تسقط, ولنتضافر جميعا من أجل إنقاذ سيارتنا من حافة الهاوية, وإصلاحها, والانطلاق بها في الطريق إلى مدينتنا العامرة المتحضرة الحرة. لا وقت لدينا للتفكير في وسيلة القصاص من السائقين الأسري لدينا, فخير ما نفعله أن نتركهم في هذه الصحراء المميتة التي أوصلونا إليها, يلعنهم التاريخ وينتظرهم مصيرهم المحتوم, خارج حدود مدينتا التي نستحقها, ولا يستحقونها, والتي سوف نشيدها بسواعدنا جميعا بإذن الله. - بقلم الدكتور مصطفي الجزار