منذ ثلاث سنوات، لم أكن قد بلغت بعد سن الرشد السياسى، كنت موهوماً بما أسمعه عن الشفافية والنزاهة والانتخابات الحرة والتعددية.. إلخ، وقررت عن طيب خاطر النزول لميدان انتخابات الشورى كمستقل، وجهزت حملتى الإعلانية والإعلامية، ونزلت للأحياء والقرى والنجوع بقسم ومركز إمبابة المرشح عنهما، والتقيت الأساتذة والعمد والمشايخ والعمال والفلاحين، وحققت شعبية ظننتها أكثر بكثير مما كنت أطمح فيه، والحق أقول إن الصحف الحكومية والحزبية والمستقلة وبعض القنوات الفضائية، قد أفردت لى مساحات لا بأس بها، لكونى أول كفيف يرشح نفسه لانتخابات الشورى، وأنا من فرط تفاؤلى أقول لنفسى: إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، لكننى لم أكن أتصور أبداً أن الحزب الوطنى هو الذى سيضيع أجر من أحسن عملاً، خاصة أن ألاعيبه الشيحية معى بدأت تكشف عن نفسها بوضوح، فقبل يومين فقط من المعركة الانتخابية إذا باليافطات الخاصة بى قد أسقطت، رغم موافقة الحى على تعليقها، وعندما ذهبت إلى قسم الشرطة لاستخراج التوكيلات لإعطائها إلى من سيمثلوننى فى لجان الانتخابات قال لى الضابط بمنتهى الذوق والأدب: انتظر بعض الوقت، أو اترك لى تليفونك وسأتصل بك عندما يكون استخراج التوكيلات مسموحاً به، واستشعرت من صوته الحرج الشديد، وكأنه مجبر على ما يقول، أو غير راض عما يفعل، طبعاً لم يتصل، وطبعاً لم أطق الانتظار، فعدت إلى القسم مرة أخرى علَّنى أفوز بالتوكيلات، وللمرة الثانية يردنى نفس الضباط، كانت زوجتى هى رفيقتى فى هذا اليوم المر، وقد شاهدت ما يجرى لى ولها ، فغضِبَتْ ثم احتجت فى الغضب ثم احتدت فى الثورة ثم بكت، وهى تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولخوفى عليها من الانهيار، وعلى حلمى من الضياع، هدأت من روعها رغم تمزقى، وخرجنا من القسم تائهين، فما بُذِل كان كثيراً، والحصاد أمر من الصبار، وفى صراع مع اليأس والتعلق بقليل من الأمل، اتفقنا معاً أن نذهب إلى الشهر العقارى كبديل للقسم، بعد أن أشار أحد الأصدقاء علينا بذلك، وقمت فعلاً بتحرير عدد كبير من التوكيلات كلفنى الواحد منها ثلاثين جنيهاً، رغم أن التوكيلات فى قسم الشرطة لن تكلفنى مليماً، وفى مساء هذا اليوم علمت مصادفة أن القسم سيوزع التوكيلات على المرشحين، فلم أكذب خبراً فلا أزال فى حاجة للمزيد منها فالدائرة كبيرة جداً، وبمجرد وصولى للقسم فوجئت بطابور كبير منتظراً للتوكيلات، فسررت جداً، ولمتنى على سوء نيتى وصعدت للطابق الثانى لمقابلة الضابط، لكنه قال لى معتذراً: يا دكتور تعال خذ التوكيلات صباحاً، فقاطعته متعجباً: لكن هناك طابور كبير فى انتظار هذه التوكيلات، فسكت ولم يرد، وعندما نزلت علمت أن هذا الطابور خاص بمرشحى الحزب الوطنى فقط، وعدت آسفاً لمنزلى ولم أنم، وذهبت فى السابعة صباحاً فى محاولة أخيرة للحصول على التوكيلات، وفشلت كالعادة، وبدأت أستشعر خيبة الأمل، وأتيقن من أننى قد دخلت إلى معركة كنت فيها مجرد أداة لاستكمال ديكور ديمقراطى، ومنذ أن بدأت اللجان فتح أبوابها فى التاسعة صباحاً، اتصل بى بعض من وكلتهم معربين عن ضيقهم، لأن الأمن رفض الاعتراف بتوكيلات الشهر العقارى، ورفض دخولهم إلى اللجان، وحتى من تمكن من الدخول توالت اتصالاتهم بى تباعاً، إلحق هناك تزوير فى لجنة مدرسة كذا، فأركب سيارتى وأندفع بسرعة للمكان المبلغ عنه، وأنا فى الطريق يأتينى تليفون آخر، ومن مكان آخر، الحق هناك تزوير فى لجنة كذا، فأعدل عن طريقى لطريق آخر، وهكذا دواليك حتى أصيب تفكيرى بالشلل، فإلى أين أذهب؟ وكيف يمكننى مواجهة هذا الطوفان من التزوير؟ وازداد الطين بلة عندما اتصل بى شقيقاى الكفيفان اللذان وصلا برفقة أمى للإدلاء بأصواتهم، لكنهم فوجئوا بمجموعة من البلطجية يقفون على الباب ويمنعونهم من الدخول، وبعد مشادة كلامية أجبر البلطجية أشقائى على الدخول للسيارة، ورفعوها بالكامل، وألقوا بها على الرصيف الآخر، ولم يكن أمامهم سوى الاستنجاد بى، فغلى الدم فى عروقى وتعنترت واصطحبت معى مذيعاً بإذاعة صوت العرب وصحفية بوكالة الأسوشيتد برس لفضح الأمر، وبوصولى للمقر الانتخابى المشؤوم، والذى يمكننى أن أدلى فيه بصوتى لنفسى أيضاً، نزلت مع الصديقين، وانطلقت بسرعة نحو باب اللجنة، وإذا فى انتظارى مجموعة أشخاص تشبه أصواتهم ما أسمعه فى أفظع أفلام الإجرام والرعب، حاولت أن أتظاهر بالشجاعة رغم الخوف الذى تملكنى، وقلت فى تحد: افتح الباب يا ولد، فدفعنى أحد البلطجية للخلف وهو يقول لى: إن شاء الله هانفتح، فعاودت المحاولة مرة أخرى وأنا أقول فى تحد: افتح يا ابنى أريد أن أنتخب نفسى، فقاطعنى ببجاحة: يا رجل نحن نعرف ظروفك، وقد انتخبنا لك وقمنا بالواجب، ثم إن هناك واحدة بتولد جوه، هل يرضيك تخش عليها وهى بتولد؟ قلت له: لا طبعاً ما يرضينيش، وقررت الانسحاب، وبينما أنا كذلك فوجئت بصديقتى الصحفية تصرخ: سيب إيدى سيب هدومى سيب الكاميرا، وفهمت أنهم ضبطوها وهى تصور ما يحدث، ثم ضاعت صرخاتها تدريجياً، مع ارتفاع أصوات اللكمات والركلات التى تعرضت لها، هنا أدركت أن الجرى نصف الجدعنة بعد أن انتزعنى صديقى من بين هؤلاء الوحوش وهو يقول لى: تعرف تجرى؟ اجرييييييييييى اجرييييييييييى، انطلقت كالصاروخ سامحنى الله ولا أعرف إلى هذه اللحظة شيئاً عن مصير الفتاة، وعدت لمنزلى، وأغلقت هاتفى المحمول، وقررت النوم، فهو أعظم فائدة فى الأيام الصعبة، تذكرت حكايتى هذه وأنا أتابع الاستعدادات لانتخابات الشورى المقبلة، وأقرأ تصريحات الأستاذ صفوت الشريف عن توجيهات السيد الرئيس بضرورة أن تكون هذه الانتخابات نزيهة وشفافة وحرة، والتوجيهات عظيمة لكنى لا أعرف كيف يمكن أن تتحقق. وميدان المعركة الانتخابية فى مصر خال تماماً إلا من فرس الحزب الوطنى، وحوله مجموعة من الكائنات المستأنسة التى لا تعرف للحرب فنوناً سوى إثارة الغبار وإصابة العيون بالعمى، ومن الذى يضمن ألا تكون انتخابات الشورى المقبلة، مذبحة للديمقراطية مثل سابقتها؟! طبعاً الإجابة معروفة للجميع وعمار يا حزب الأغلبية.