منذ ما يزيد على الشهر كتبت فى هذا المكان مقالاً بعنوان «خزى الدنيا» بدأ بالفقرة الآتية «تخيل معى ذلك المشهد: الرئيس المخلوع مبارك يرتدى بزة (بدلة) السجن البيضاء، وإلى جواره يجلس نجلاه جمال وعلاء مبارك. الانكسار يكسو وجه الأب والوجوم يعلو وجهى ابنيه، وأمام شاشات التليفزيون يجلس المشاهدون فى غاية الإثارة والدهشة، ويفرك كل منهم عينيه، حتى يتأكد أن من يعاينهم على الشاشة هم هؤلاء الأشخاص، الذين ظنوا أنهم قادرون على خرق الأرض وبلوغ الجبال طولاً. من المؤكد أن هذا المشهد سوف يرسخ فى عقل ووجدان المصريين أكثر من غيره. نعم اندهش الناس وهم يرون العادلى وعز وجرانة والمغربى فى ملابس المساجين، فغرت أفواههم وهم يرون ضباط شرطة صغاراً يجرجرون وزير الداخلية السابق داخل عربة الترحيلات، لكن المشهد القادم سوف يكون أكثر إثارة وأشد قدرة على الإدهاش، إنه الرئيس الذى لم تر الأجيال التى ثارت ضده غيره، وظنوا فى لحظات يأس أن العمر ماضٍ بهم دون أن يعاصروا تغييره، وإلى جواره يجلس الوريث، الذى ظن أن بر المحروسة دان له، وأنها عروس تستعد لتسليم نفسها مرغمة إليه». لم تكن هذه الكلمات تعبيراً عن نبوءة بل إحساس بالتطور الطبيعى لمجرى الأحداث. ليست شماتة، لكنه الإحساس بحكمة الخالق العظيم، التى قضت بأن يمد فى عمر «مبارك» حتى نرى فيه آية من آيات عدله «ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار». ظل العديد من أبناء هذا الشعب يحلمون بلحظة يختفى فيها حسنى مبارك بيد الله، ومع كل شائعة كانت تنتشر حول حالته الصحية كان يحدوهم الأمل فى التخلص منه، وفى كل مرة كانوا يصابون بالإحباط وهم يجدون مبارك يخرج لسانه لهم ليؤكد أنه مازال جاثماً فوق صدورهم. ولو أن الإنسان يعلم الغيب لآثر الواقع، فقد شاء الله أن يطيل فى عمر الرجل ليشهد هذا الختام المر المرير هو وأفراد عائلته، وليتم الزج بهم فى السجون على يد «الولاد» كما وصفهم صفوت الشريف فى اللحظة الأولى، التى وطأت فيها قدماه سجن المزرعة بطرة حين قابل أحمد نظيف، الذى سبقه إلى هناك فقال له: «الولاد بتوع الثورة دخّلونا السجن». هؤلاء «الولاد» من مجموعة «الفيسبوكيين»، الذين لم يحسب أحد فى النظام السابق أى حساب لهم، واطمأنوا فى كراسيهم بعد أن شتتوا الإخوان، وأضعفوا الأحزاب، وجففوا نهر السياسة فى مصر، فإذا بالضربة تأتيهم من هؤلاء الولاد «فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا». وأولى الناس بتأمل هذا المشهد والاعتبار بما يحمله فى أحشائه من دروس وعبر هم هؤلاء الطامحون إلى السلطة والرئاسة والحكم، إذ عليهم أن يستوعبوا أن السر الذى ساق مبارك ونظام مبارك إلى هذا المصير يتلخص فى تلك المسافات اللفظية القصيرة جداً، التى تفصل ما بين كلمات ثلاث «الاحتكار والاحتقار والاحتقان»، فاحتكار السلطة والثروة والظن الكاذب بامتلاك مقدرات ومعطيات الحياة يسوقان المرء إلى احتقار غيره والاستخفاف بقدرته على النيل منه، وعدم الوعى بأن الحياة تتقلب والمصائر تتغير، والظروف تتبدل من يوم إلى يوم «كل يوم هو فى شأن»، عندئذ تكون النهايات الميلودرامية من طراز تلك النهاية التى انزلق إليها مبارك وعائلته ورموز نظامه. واحتقار السلطة للشعوب لابد أن يؤدى إلى حالة من الاحتقان تظل كامنة داخل النفوس، حتى تأتى اللحظة المواتية فيتحول الاحتقان إلى طوفان من البشر يتدفقون بالملايين إلى الشوارع كما حدث فى مصر ولا يتوقفون حتى يعتدل الميزان. على كل من يطمح إلى السلطة حالياً أن يستوعب هذا الدرس، وأن يفهم أن لكل مقدمة نتائج ولكل سبب مسبباً. فإذا أرادوا لأنفسهم حسن الختام والنهاية الآمنة فعليهم أن يشطبوا كلمة «احتكار» من قاموسهم، لأن تلك هى الضمانة الوحيدة لحياة سياسية واقتصادية واجتماعية أكثر استقامة يصعب أن تفضى بهم إلى «احتقار» الآخر، الأمر الذى يؤدى إلى «احتقانه»، وتربصه بهم حتى يأذن له الله بكتابة سطر النهاية فى تاريخهم. ويجب ألا يرتبط الأداء المتأسس على نبذ «الاحتكار» بفترات البداية فقط ثم تمارس الذاكرة المصرية المثقوبة عملها فى تسريب الدروس والعبر، بل لابد أن يسيطر هذا الأداء طيلة فترة الوجود فى السلطة. فالزخم الحالى يمكن أن يؤدى إلى بدايات مشجعة وإيجابية، خصوصاً أن من سيقضى الله بأن يرث ملك مصر يستند فى تقديم نفسه للشعب إلى إنكار ما كان يفعله مبارك ونظامه، لكنه لا يضمن النهاية بحال. لذلك أقترح على كل مسؤول جلس على كرسى بعد الخامس والعشرين من يناير أو سوف يجلس على كرسى فى المستقبل، أن يضع على مكتبه بروازاً يحمل الآية الكريمة، التى تقول «قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون»، فذلك هو الجواب الذى قدمه نبى الله موسى، عليه السلام، إلى بنى إسرائيل عندما خاطبوه «قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا»، وبالتالى فالآية تسجل مشهداً من مشاهد التاريخ الإنسانى للشعب المصرى يحسن أن يضعه المسؤولون فى كل المواقع نصب أعينهم. أما على مستوى الشخص الذى سيختاره المصريون رئيساً لهم فأنصحه بأن يضع فوق مكتبه بروازاً تجلله الآية الكريمة «وتلك الأيام نداولها بين الناس». وكم من حاكم مر على هذا البلد أهمل الحقيقة الخالدة، التى تحملها هذه الآية فبدأ بدايات طيبة واختتم مسيرته أسوأ ختام عندما وصل إلى مظنة القدرة على الاستمرار إلى ما لا نهاية. «الاحتكار والاحتقار والاحتقان» كلمات ثلاث يفصل بين كل كلمة وأختها حرف واحد على مستوى اللفظ، لكن فواصل المعنى بينها تمتد لمسافات عريضة تحد الحدود بين لحظة الفرحة بالظفر بالحكم، ولحظة النشوة بالاستئثار بالسلطة، ولحظة الخزى فى سجن طرة!.