هل سألت نفسك يوماً وأجبت بصدق ماذا عساه في ظنك يكون رد الشعب لو طرح عليه في استفتاء ديمقراطي حر نزيه أسئلة من نوع "هل تقبل بحق المواطنة لليهودي والملحد ومن هم من غير أتباع الديانات السماوية؟" أو "هل تقبل بحرية الارتداد عن الإسلام؟" أو "هل تقبل بتحريم الخمور نهائياً في جمهورية مصر العربية"؟ أو "هل تقبل بتجريم ضرب الأب والأم للأبناء والزوج للزوجة؟" أو "هل تقبل بأن يكون ارتداء الحجاب اجبارياً لكل امرأة حائض؟" أو "هل تقبل بتطبيق الحدود الشرعية ؟" أو "هل تقبل بإلغاء المادة الثانية من الدستور؟" أو "هل تقبل بتجنس الأجانب بالجنسية المصرية بناء على شروط الإقامة والاندماج في المجتمع وإجادة اللغة العربية التي يحددها القانون؟" أو "هل تقبل بالزواج المدني؟" أو "هل تقبل بالرقابة على الإنترنت والقنوات الفضائية وحجب القنوات والمواقع الإباحية" أو حتى "هل تقبل بإلغاء الرقابة على المصنفات الفنية؟"...الخ. أظنك أي كان قدر تفاؤلك أو حسن ظنك بوعي وتسامح واعتدال هذا الشعب لن تختلف توقعاتك عن توقعاتي كثيراً فيما ستسفر عنه نتيجة أي من هذه الاستفتاءات. فكلانا يعرف يا صديقي الحقيقة التي يحاول شباب الثورة من المثقفين والفنانين واليساريين وأبناء الطبقة المتوسطة أن يتناسوها أو يتغافلوا عنها وهم يبيعوننا مشروع ديمقراطية لا أظنهم إن قبلوا بها تتسامح مع أي منهم بقدر تسامحهم مع ثقافة شعب هم ولا شك مغتربون عنه ومنفصلون في ايقاع ونمط حياتهم وتوجهاتهم الفكرية والثقافية عن واقعه وثقافة أغلبيته الكاسحة. فشباب الثورة يراهن (أو يقامر بمعنى أدق) على أن مجتمعاً عماده الديمقراطية هو مجتمع يكرس الحريات وقيم التسامح وقبول الآخر وحقوق الإنسان التي لم يسعهم ما عرفوه منها في عهد النظام البائد فثاروا عليه وأصروا على إسقاطه، وظنوا حين هتفوا "الشعب يريد إسقاط النظام" أن "الشعب يريد إسقاط التخلف". و"التخلف" الذي أعنيه هو التخلف عن القيم السامية التي أقرتها الحضارة الإنسانية في رحلة نهضتها ورقيها، فصاغتها وأخذت بها المجتمعات المتقدمة علمياً وحضارياً وانسانياً واقتصادياً معاً. إن السؤال الذي يطاردني منذ أيام وعبثاً حاولت أن أتناساه، هو "بماذا تعدنا الثورة؟". ولا أخفيك سراً أني كدت أعنون هذه السطور "الأساطير المؤسسة للثورة المصرية" (على غرار عنوان كتاب روجيه جارودي الشهير) ولكني آثرت ألا أستفذ بالعنوان من أنا حريص على أن يقرأ ويفكر معي بكل صدق وحرص على الوصول معاً لتصور واقعي وعملي لما وضعتنا أمامه الثورة من تحديات وما نحن مقدمين عليه منها. وفي محاولتي الإجابة على هذا السؤال، لن يمكنني إلا أن أظل وفياً لمنهجي البرجماتي الذي اخترته لنفسي ولم أجد أفضل منه منهجاً أفكر وأصيغ على أساسه تصوراتي. فالثورة قامت على عدد من الفرضيات (الأساطير في رأيي وإن اختلفت معي أو وجدت في التعبير مبالغة مجحفة) أهمها أن الشعب المصري واع ناضج متحضر متسامح معتدل بفطرته، وثانيها أن من منع الشعب المصري عن ممارسة وعيه السياسي والديني والاجتماعي الفطري هو مناخ الفساد السياسي والاجتماعي الذي أغرقه فيه النظام، وثالثها أن الديمقراطية هي الحل والضمانة لأن يخرج هذا الشعب ثمين ما في جعبته من قيم حضارية ودينية وانسانية لنعيش معاً في رغد مجتمع من الحريات والشفافية واحترام حقوق الإنسان، ورابعها أن التدهور الاقتصادي والفقر كان سببه الوحيد فساد الحكام ونهب ثروات وموارد البلاد لصالح قلة جشعة ومنحرفة، وخامسها، أن تحسين الدخول رهن قرار سياسي حال دونه الفساد وأن أي حكومة تستطيع بجرة قلم أن ترفع الأجور فتضمن للمطحونين والغارقين في الفقر حياة كريمة اقتصادياً واجتماعياً معاً، وسادسها أن الفساد فساد قلة حاكمة اضطر شعب بأكمله أن يجاريها من أصغر موظف لأبسط مواطن ولولاها لما عرفت مصرنا الحبيبة رشوة أو محسوبيات، وسابعها أن التطرف الديني أو في أحسن الأحوال اللجوء للدين كبديل ما كان إلا رد فعل ليأس المصري البسيط من عدالة الحياة الدنيا في بلد استشرى فيه الفساد وقمع الحكام فآثر أن ينتظر عدالة السماء لتصلح ما أفسده الفاسدون، وأن المصري بالتالي متسامح مع دين ومعتقدات الآخر أي كانت، قابل لها لا يجد غضاضة في أن يتصالح معها بل ويحتضنها لولا أنه اضطر لأن يتطرف ويتعصب وينغلق. إنني لا أنوي الاستفاضة في تفنيد هذه الفرضيات (الأساطير) بقدر ما سأكتفي بأن أستعرض معك بإيجاز شديد قائمة بوعود لا أظن أن الثورة يمكنها بشكل عملي أو موضوعي أن تعد بها. إن الثورة لا يمكنها أن تعدنا بالضرب على أيدي الفوضى التي عمت الشارع (من سائقي ميكروباسات وباعة جائلين وغيرها من مظاهر الفوضى) فلو فكرت أو تجرأت على مجرد التفكير في ذلك لقامت القيامة في بر مصر واتهم شبابها بمحاربة البسطاء في أرزاقهم. والثورة لا يمكنها أن تعدنا بدولة القانون لأن دولة القانون تعني أولاً هيبة الدولة التي كانت قد فقدت جزءاً كبيراً منها في عهد النظام البائد ثم قضت الثورة على ما بقي منها في معركتها مع النظام، كما أنها تعني ثانياً أن يطبق القانون تطبيقاً صارماً حاسماً وهو ما يعني أن تشيد الدولة سجوناً بعدد كل من يتلفظ بلفظ ناب في الشارع ومن يلقي قمامة أو يتبول ومن يشغل الطريق ومن يحدث ضوضاء أو ينصب صواناً ...الخ. ولو طبق القانون كما لدولة القانون لتحولت مصر إلى سجناً كبيراً. والثورة لا يمكنها أن تعدنا بمجتمع حريات وحقوق إنسان، فلو فكرت أو تجرأت على مجرد التفكير في ذلك لاتهم شبابها بتنفيذ مخطط غربي للقضاء على الإسلام وتفتيت عرى القيم الاجتماعية الأصيلة للمجتمع المصري لإضعافه وتقديمه لقمة سائغة للغرب وأعوانه. والثورة لا يمكنها أن تعدنا برخاء اقتصادي أو بتحسن مستوى الدخول والمعيشة لأن ذلك رهن معطيات اقتصادية يبدو لي أن الثورة لا تدركها أصلاً ناهيك عن أن تأخذها في حسبانها. فزيادة أجور الموظفين وعمال شركات القطاع العام رهن موارد دولة فقيرة أصلاً وزادها فقراً ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية بعد الثورة. كما أن زيادة أجور موظفي الحكومة والشركات العامة لا يعني زيادة أجور القطاع الخاص الذي يعمل فيه بدون حقوق أو ضمانات أو تأمينات أو ساعات عمل أو ظروف آدمية القطاع الكاسح من أبناء الشعب. وأي زيادة في الأجور تؤدي وفقاً للقانون الاقتصادي إلى تضخم يرفع الأسعار فيمتص الزيادة ويزيد العاطل والفقير فقراً. والثورة لا يمكنها أن تعدنا بنمو وانتعاش اقتصادي إذ أن ذلك يعتمد على ضخ استثمارات لا تملكها خزانة الدولة ولا يملكها إلا رؤوس الأموال الوطنية وأكثر منها الأجنبية. ورؤوس الأموال هذه تحتاج مناخاً اقتصادياً تنافسياً يغريها بالاستثمار في مصر دون غيرها في عالم تتنافس فيه الدول على جذب الاستثمارات. الراصد للمزاج الاقتصادي السائد عند جموع الشعب المصري بما في ذلك النخب السياسية التي تقود الثورة يدرك أنه يغلب عليه التوجهات اليسارية الاشتراكية على اختلاف درجاتها، فيصبح علينا أن نواجه أنفسنا بأن الأرجح هو عذوف رؤوس الأموال الأجنبية وهروب بعض رؤوس الأموال الوطنية من الاستثمار في مصر. والثورة لا يمكنها أن تعدنا بالقضاء على الفساد والرشاوى من صغار موظفي الدولة فلا زيادة أجورهم ل 1200 جنيه تكفي لأن يكفوا عن رشوة تدر عليهم أكثر من ذلك بكثير ويبررونها وتبررها الثورة لهم ضمنياً بأن تدني الأجر يبيح الرشوة لمواجهة كلفة المعيشة وتحقيق حياة كريمة لا توفرها لهم أجورهم. كما أن الأوقع هو أن أجراً يسمح بحياة كريمة حقاً لا يمكن أن يقل عن 2000 جنيه لأسرة يعولها عائل في مجتمع مازالت الزوجة فيه تعذف أو يفضل زوجها ألا تعمل إلا إذا أجبرتهم الحاجة على ذلك. والثورة لا يمكن لها أن تعدنا بأن تأتي الديمقراطية بمعتدلين إلى الحكم لأنه لا يخفى على أحد كم التشدد والتعصب الديني والقبلي والعرقي والثقافي الذي بات يسيطر على الشعب المصري. والثورة لا يمكن لها أن تعدنا باستقرار أو انفتاح على العالم لأن دعاة التصعيد مع إسرائيل والغرب كثرة ومن ضمنهم بعض التيارات التي من المفترض أنها تمثل القوى المستنيرة والمعتدلة. ولست متأكداً أن قائمة ال لاوعود هذه حصرية. ربما هناك غيرها قد نسيته لتزاحم الأفكار في ذهني. ألا يمكن للثورة أن تعدنا بشيئ إذاً؟ بلى. إن الثورة في رأيي من الممكن بكثير من الإصرار والنضال والمثابرة أن تعدنا بالديمقراطية ... لوقت. أقول لوقت لأن الديمقراطية إن نجحت الثورة في تحقيقها تعني أن تمتثل الأقلية وتنزل على رأي الأغلبية. والأغلبية هي تلك التي أعرف وتعرف جيداً بماذا عساها تجيب لو عرضت عليها الأسئلة التي بدأت بها حديثي. ولأن هذه الأغلبية ترى أن ثوابتها الدينية والثقافية والاجتماعية قرآن منزل لا يمكن أن نحيد عنه، فلا يستبعد أن تعصف بالديمقراطية لو رأت فيها خطراً على هذه الثوابت. غير أن الديمقراطية دامت أم لم تدم تعني قبل كل شيئ أن تقبل النخبة والقوى المعتدلة التي قادت الثورة بأن تعرض نفسها وقيمها ومبادئها بكل حياد ونزاهة على الشعب المصري ليقول كلمته في استفتاء على ما تطرحه هذه النخبة من تصورات سياسية واجتماعية. وتعني أن تنظم استفتاءات بعدد الأسئلة التي طرحتها في بداية مقالي وغيرها مما لم يخطر لي ببال، وترتضي بالنتائج أي كانت ويصاغ على أساس ذلك دستور وقوانين الدولة. وتعني أن تقبل بدولة ومجتمعاً مختلف شكلاً ومضموناً اختلافاً جوهرياً عما خرجت هي مخاطرة بحياتها لتدافع عنه. ذلك أن القوى التي حركت الثورة من مثقفين وفنانين وناشطين سياسين وأبناء طبقة متوسطة قد استقت واستوعبت قيماً حضارية وثقافية وسياسية أتاحها لها احتكاكها بعالم مفتوح في ظل نظام انتهج سياسة انفتاح ثقافي وفكري على العالم وخلقت اقتصادياته في العشر سنوات الأخيرة طبقة متوسطة صاعدة لديها رفاهية اقتناء كتاب وحاسوب واشتراك انترنت. فهذه القوى النخبوية التي فجرت الثورة هي لا شك غير معبرة عن حال القطاع الأعرض من أبناء الشعب المصري سواء في نمط حياتها أو في مفاهيمها ومرجعياتها الثقافية والاجتماعية. وربما هو تقوقعها حول ذاتها وانعزالها عن واقع المجتمع المصري في أحياءها وجامعاتها ونواديها ومنتدياتها ومقاهيها هو ما جعلها غير قادرة على استيعاب الهوة الهائلة التي تفصلها عمن تظن مخطئة أنها لو لوحت لهم براية الحريات، أدوا لها التحية العسكرية مهللين. فلو أنك واجهت نفسك بصدق بالموروث الثقافي والديني والاجتماعي الذي سيستوحي منه المواطن البسيط إجابته على أي من الأسئلة التي بدأت بها مقالي، لأدركت أن لا علاقة بها بنظام سابق أو لاحق أو بفساد حاكم أو حكام. ولأدركت معي أن الثورة خاضت معركة سهلة أمام نظام لأن النظام يمثله أشخاص هم في نهاية الأمر أقلية إذا ما قورنوا بشعب بأكمله، وأن إسقاط النظام يحتاج إلى أسابيع من التظاهر والإضرابات بينما إسقاط "التخلف" يحتاج إلى عقود وربما قرون من الحراك الاجتماعي والثقافي والحضاري لا تدعو إليه مظاهرة، ولا يبشر به مفكر أو صحفي في مقال، ولا يمكن لقوى أن توجهه أو تواجهه لأن لا وجه له ولا قائد، ولا يسقط بسقوط رئيس، فالداعي إليه ومحركه الوحيد هو حركة التاريخ وتفاعل الشعوب مع معطياته. إن الثورة حين أسقطت النظام، ظن شبابها أن المجتمع أسقط معه تلك القيم التي حارب ضدها وأن الشعب سوف يحمله على الأكتاف ليبدأ معه عهداً جديداً من حريات وشفافية وحقوق إنسان وأنا أظنه في ذلك حالم حلماً صاغه واجتره وصدقه على صفحات الفيسبوك ومقاهي وسط البلد. والمطروح الآن هو إما القبول بالديمقراطية التي هي في تصوري الوعد الوحيد الذي يمكن للثورة أن تعد وتفي به، مع تحمل تبعاتها أي كانت حتى لو وضعت النخبة والقوى الواعية المثقفة تحت أقدام جحافل من المغيبين والمنغلقين فكرياً، إما التراجع عنها والقبول بالحال على ما هو عليه أي بالجيش وقوى الفساد من بقايا النظام من وراءه، بعد أن ركبت الثورة ونفذت تحت ستارها انقلاباً مبيتاً على تيارات الإصلاح داخل النظام الساقط فأطاحت بها منذ الساعات الأولى وبدأت في تصفيتها بينما بقيت هي تدير خيوط اللعبة السياسية من وراء الكواليس دون أن يتعرض أحد لملفات فسادها أو يلاحقها. إنني بكل تشاؤم أرى أننا أمام معضلة علينا فيها أن نختار بين أمرًين. وأنا عن نفسي عاجز عن الاختيار بينهما. فالعودة للوراء مستحيلة، والوقوف في المكان مستحيل، والمضي إلى الأمام هو خوض معركة فاصلة (وخاسرة أغلب الظن) بين قلة أنتمي إليها وأغلبية لا أرتضي جهلها ولا قيمها ولا ثقافتها. هل لم يعد لي مكاناً في هذا الوطن ولم يعد هناك بد من الرحيل؟ مينا بباوي 8 ابريل 2011 [email protected] https://www.facebook.com/mina.bibawi