كنتُ فى طريقى إلى البحرين، وكان صديقى قادماً من تركيا، ولأنه مشتغل بالمال والأعمال، فقد كان مهتماً، طوال ثلاثة أيام قضاها هناك، بأن يعرف ملامح اقتصاد تركيا، وإلى أين يسير. وحين عرف أن الصادرات التركية فى العام الأخير قد وصلت إلى 120 مليار دولار، فإنه راح يقارن بينهم وبيننا، فلما فشل فى العثور على وجه للمقارنة، أصابه الحزن، وأحس بوجع فى أعماقه.. فالأتراك فى مثل عدد سكاننا، ولا يوجد شىء يبرر ارتفاع صادراتهم إلى هذا الرقم، بينما صادراتنا فى المقابل لاتزال تدور حول 30 ملياراً، وهو رقم يدعو إلى الخجل لأن فيتنام، التى دمرتها حرب استمرت عشر سنوات مع الأمريكان، وصلت بصادراتها إلى 65 ملياراً، ويسكنها 80 مليوناً مثلنا تماماً، ولكن صادراتهم ضعف صادراتنا، بما يعنى أن هناك خللاً عندنا لابد أن نعرفه لنعالجه! ولأن تركيا هى الأقرب إلينا، بمعايير كثيرة، فإننا يجب أن نتطلع إليها فى كل وقت، لا لنقلدها فيما تفعله، وإنما لنتعلم ثم نأخذ ما يناسبنا، وما يجب أن نأخذه! ويكفى أن نتأمل الطريقة التى قرر رئيس وزرائهم «أردوجان» أن يتعامل بها مع مسألة ارتفاع أسعار اللحوم هناك، فهو لم يشأ أن يبدد وقته فيما لا يفيد، وإنما سار إلى المشكلة من أقصر طريق يؤدى إليها، وأعطى وزراءه مُهلة يومين.. فقط يومين.. لإعادة الأسعار إلى ما كانت عليه، وسوف تكون النتيجة حتماً أن ارتفاعات الأسعار سوف تتراجع، لأن الرجل المسؤول على رأس الحكومة فى البلد، قد أدرك مبكراً أن هناك مشكلة، وأنها تؤرق الناس، وأن حلها مسؤوليته، وأن المواطنين لا ذنب لهم فيها، وأنه لكى يصل إلى حل فلابد أن يكون أمامه مدى زمنى، له أول، وله آخر، بما يجعل كل مواطن يعرف رأسه من قدميه! ثم قرأت ما هو أغرب من ذلك كله، وهو أن حكومة أردوجان، ذات الجذور الإسلامية، قد سمحت بافتتاح شاطئ للعراة على بحر إيجه، للسياح القادمين من أوروبا، واشترطت فيه ألا يدخله الأتراك مُطلقاً وألا يتجول رواده فى الشوارع القريبة من الشاطئ، وأن يظل حكراً على الأجانب وحدهم! أعرف من جانبى طبعاً أنك سوف ترفض وجود شاطئ من هذا النوع فى بلد مسلم مثل تركيا، وأعرف أنك معذور حين ترفضه، وأنا معك، ولكنى أدعوك إلى أن تفكر فى الموضوع من زاوية أخرى تماماً، فحكومة أردوجان حكومة ذات مرجعية إسلامية ابتداء، كما نعرف جميعاً، ولذلك فهى ليست فى حاجة إلى مزايدة من أحد عليها فى هذا الاتجاه، وهى حين تسمح بوجود هذا الشاطئ عندها فليس لأنها تخون مبادئها، ولا لأنها تحتال على جذورها، ولا لأنها تخدع المواطن التركى، ولا أى شىء من هذا القبيل، وإنما كل ما فى الأمر أنها تتعامل مع شتى الأمور بجدية كاملة تتناسب مع طبيعة كل أمر على حدة! ففى قضية الصادرات - مثلاً - تضع أمامها هدفاً تريد الوصول إليه، ولا تسمح لشىء بأن يشغلها عن هذا الهدف، وهو ما سوف يؤدى مستقبلاً إلى ارتفاع ال120 ملياراً إلى الضعف، وتتعامل مع الأسعار بمنطقها، وتعرف المشكلة، وتذهب بالتالى مباشرة إلى الحل، أما الشاطئ إياه، فهى لا تسمح به، لأنها لا سمح الله مغرمة بالعُرى والعُراة، وإنما لأنها تدرك أن السياحة «صناعة» وأنها كحكومة إما أن تقبلها كصناعة وتعمل من أجلها على هذا الأساس، أو ترفضها، وليس هناك حل آخر فى المنتصف! ولو أنك بحثت عن «كلمة السر» فى التعامل مع الملفات الثلاثة، فهى «الجدية».. ولا شىء غيرها! وهى بالضبط ما نفتقده فى غالب الأحيان، إن لم يكن فيها كلها! ولا فرق بين جديتها مع الصادرات عنها مع العُراة، وبينهما مع أسعار اللحوم، لا لشىء، إلا لأن المبدأ واحد!